Ads 468x60px

الأربعاء، 14 نوفمبر 2012

الرد على مزاعم الاصوليين في الحسن والقبح العقليّ والملازمات العقليّة

الرد على مزاعم الاصوليين في الحسن والقبح العقليّ والملازمات العقليّة














المرحوم
عالم سبيط النيلي


الرد مزاعم الاصوليين الحسن والقبح العقليّ والملازمات العقليّة



تمّهيــــد

اختلف أهل الإسلام بشأن قدرة العقل على الحكم بحسن الاشياء وقبحها بين منكر لها كالاشعرية وعموم أهل السنة ومثبت لها كالمعتزلة والشيعة . ونقصد هنا بلفظ ( الشيعة ) ـ علماء الأصول بعد الغيبة فليس منهم الأئمة الاثنى عشر (عليه السلام) ولا رواة حديثهم ولا متكلّميهم قبل عصر الغيبة ، لأن لهم نظرية في المعرفة تختلف عن جميع النظريات الأخرى ولا علاقة لها بتنظير الأصوليين من جميع الفرق وسوف نحاول الكشف عن هذه النظرية وملامحها بعد تفنيد آراء الفرقتين في الحكم العقليّ إن شاء الله تعالى .
لم يكن إصرار الاشعرية على سلبية العقل وعدم قدرته على الحكم الا بسبب موقفٍ مسبقٍ من موضوع الإمامة وكذلك إصرار الإمامية على قدرة العقل على الحكم إنما كان بسبب مبحثٍ في أصول الدِّين لا أصول الفقه هو مبحث الإمامة . وخلاصة الأمر : إن متكلّمي الشيعة وبتعليمٍ من أهل البيت عليهم السلام ردّوا على من ينكر وجود الحجّة بنفس الردود على من ينكر وجود النبوة ، فالإمامة فرع على النبوة ، بل الأوّلى القول أن الإمامة أصل والنبوة فرع ، إذ لولا الضرورة العقليّة لوجود الإمامة أو الحجّة الدائمة على الخلق لأنتفت النبوة . وكان ذلك دليلاً عقليّاً عندهم إضافة إلى الأدلة النقلية كالوصية وأحاديث النبي ( صلى الله عليه واله و سلم ) والوقائع التاريخية . ووجد الاشعرية أنّه إذا أمكن التخلّص من النصوص النقلية بتأويلها لغوياً عن طريق الإعتباط فلا يمكن التخلّص من الدليل العقليّ هذا الا بإنكاره وسلب قدرة العقل على الحكم وإرجاع المبحث إلى المنقول ليظلّ دائراً في حلبة المنقول الذي يمكن تأويله .
إذن أراد الاشعرية إلغاء هذا المبحث لهذه الغاية مع علمهم المسبق أن للعقل قدرة على الحكم بحسن وقبح الاشياء ومع علمهم المسبق أن المرء لا يؤمن بالرسول ( ص ) وكتاب الله ويعتقد بصحّة دينه الا من خلال حكم عقليّ . ولذلك ظهرت هذه القدرة عندهم في العقل ـ وخلافاً للمبحث الكلامي ـ ظهرت في الفروع وفي الفقه في مباحث القياس والاستحسان والإجماع ولم يضعوا عنواناً يحمل لفظ ( العقل ) مع أن هذه جميعاً هي أحكام عقليّة لا شرعية فظهر تناقضهم الشنيع مع أصولهم . فكأنّهم أرادوا التعويض عن إنكارهم لها في أصول الدِّين من خلال الأخذ بها في الفروع . علماً أن الموضوع هو بالعكس من ذلك تماماً ، إذ أن المرء إذا آمن بعقله بالرسول (صلى الله عليه واله و سلم ) وكتاب الله U فإن العقل يحكم بعد ذلك بوجوب اتّباعه وطاعته ولا يحكم لنفسه بإمكان مشاركته في الحكم من خلال القياس والاستحسان وما شابه . وهكذا فهؤلاء قد أنكروا الحكم العقليّ حيث يجب الاعتراف به واعترفوا به في موضعٍ يجب الاّ يعمل فيه العقل فانعكس الأمر عمّا هو عليه في القرآن .
أما الأصوليين من الإمامية فإنهم حيث أكدوا على قدرة العقل على الحكم العام في الأصول ـ أصول الدِّين ـ لإثبات الإمامة فقد نقلوا هذه القدرة عن طريق ما سمي بالمستقلات العقليّة والملازمة إلى الفروع لتخريج حجّية العقل في مقابل الحكم الشرعي . ثم رفضوا القياس والاستحسان العقليّ لأهل السنة ظاهريا تنفيذاً لوصايا الأئمة (عليه السلام ) ـ علما أن القياس هو الحكم العقليّ وهو ذات الملازمة العقليّة كما سنرى من تحليل أقوالهم عليهم السلام . لقد قامت الفرقتان بتغيير الألفاظ واستعمال اصطلاحات أخرى لتمرير ما أنكره كلّ منهم والناتج أن المجموع قد أخذوا عملياً بما هو مرفوض في الشرع رفضاً قاطعاً ـ وبما يؤدي في النتيجة إلى إنكار الإمامة أما مباشرة كما فعل العامة أو بالطريق غير المباشر كما فعل الأصوليين من الإمامية .
ولكن من المعلوم أن طائفة الإمامية ليسوا جميعا من الأصوليين بل القسم الأكبر هم من العلماء المحدثين الاخباريين وهؤلاء ينكرون الملازمات العقليّة بل ومجمل قواعد الأصوليين أشد الإنكار وأن كانت المرجعية والشهرة للأصوليين. بل أن بعض الأصوليين قد شكّك في ثمرة المبحث بل وأنكر الثمرة البعض الآخر وأنكر الملازمة العقليّة بعض ثالث من الأصوليين مثل صاحب الفصول كما سنرى .
ولّما كنت اعتقد أن هذه المسألة هي اكبر مسألة ابتلائية ابتلي بها الملائكة أولاً في قصة السجود لآدم ( عليه السلام ) وابتلي بها آدم حيث أمره الله تعالى بعدم الأكل من الشجرة بحكم شرعي غير مفهوم له عقلاً وابتلي بها كلّ الخلق تباعاً وأنّها سبب الفرقة وفهمها يشكلّ عاملاً من عوامل الاتحاد ويوضّح أهمّ وأوّل خطوة للإيمان وعلاقة الفرد بخالقه وأنّها مصدر الاضطراب في مباحث الأصول كلّها وسبب الخلاف بين الأصوليين والإخباريين وسبب الخلاف بين الملل كلّها وأن الحوار بين الأديان مستحيل بدون حسم لهذه المسألة ، إذ هي سبب الخلاف واساس اتباع كلّ قوم لحكمهم العقلي المستقل عن الشرع فإني – لهذه الأسباب وغيرها – سأحاول إبطال المستقلات العقليّة بمختلف الطرق والسبل واستبدالها بـ ( نظرية المعرفة ) المنتزعة من القرآن الكريم والكتب المنزّلة والمتـّفقة مع كلام أهل البيت ( عليه السلام ) والذين بهم يجمع الله الملل بعد الضلال والتفرّق وينقذهم من مهاوي الهلكة كما استنقذهم بهم من الشرك وعبادة الأصنام ، ثم أني سأربط هذا المبحث بكلِّيات أصول الدِّين والإيمان والوعد الإلهي والبداء وغيرها ليكون المفهوم عنها مفهوماً من مجموع الخطاب خلافاً لمن قسّموا القرآن إلى قطع و جعلوا الكتاب زبراً ، واتخذوا القرآن عضين .
و سوف اجعلها كما في البحثين السابقين على صورة مسائل ، تسهيلاً للقارئ الكريم ، متلمساً من العلماء الأفاضل التمّعّن في هذه المسائل والتفكر في معانيها وعدم إصدار الأحكام المسبقة بشأنها والتشبّث بالمواقف المبيّـتة بصددها واذكرهم بأمر الله تعالى أن لا يزكّوا أنفسهم فإنه أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو اعلم بمن اهتدى ، كما أذكّرهم بكيد الله تعالى واستدراجه للمرء من حيث لا يشعر وأن لا يأمنوا مكر الله واذكرهم أيضاً بقلّـة أهل الحقّ وكثرة أهل الباطل وبما ذكره رسول الله (صلى الله عليه واله و سلم ) في أحاديث الملاحم من حسن مظهر الناس والعلماء في آخر الزمان و سوء سريرتهم ، وهي نصوص كثيرة جداً بين أيديهم لها دلالتها فليتنبهوا ولينـّبهوا العامة فإن وجدوا فيـها الحقّ فإن الحقّ أحـقّ أن يتـّبع وأن وجدوها غير ذلك – وهي ليست غير ذلك – فليعيدوا الكرة و يطلبوا من الله تعالى هدايته فإنه قريب مجيب ، واستغفر الله لي ولهم أنّه غفور رحيم .




المسألة (21):في صيغة تحرير مسألة الحكم العقليّ
ووجه المخادعة فيها
صيغة التحرير : (هل للأفعال حسن وقبح بحسب ذواتها ولها قيم ذاتية في نظر العقل قبل فرض حكم الشارع عليها أو ليس لها ذلك وإنما الحسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبحه والفعل مطلقاً في حد نفسه من دون حكم الشارع ليس حسناً ولا قبيحا ((1)
قال : وهذا هو الخلاف الأصيل بين الاشاعرة والعدلية .
أقول : هذا الكلام لا يصح لتحرير المسألة فهو متناقض ومخالف لأصل المسألة وفيه مخادعة . ذلك لأن الأصل ليس الفعل في حدِّ نفسه – إذ لا خلاف في كون الفعل في حدِّ نفسه أما حسن أو قبيح فحوّل الكلام إلى الفعل نفسه ليوحي للمرء أن المنكر لحسن وقبح الفعل إنما ينكر البديهيات وهو ليس كذلك .
وابتداء الكلام بلفظ (الأفعال ) فيه حيلة أخرى لأن المظفر وعموم الأصوليين إنما أثبتوا الحسن والقبح من العموميات والكبريات مثل حسن العدل و قبح الظلم ! فهذا لا إشكال فيه ولا ينكره عاقل لا من الاشاعرة ولا من غيرهم .
ولا يغيب عنهم أصل الموضوع والذي هو هل للعقل قدرة على إرجاع كلّ فعل إلى عنوانه الأصلي من القبح والحسن قبل فرض حكم الشارع أم لا ؟ أم أن العقل لا يمكنه ذلك الا بعد حصوله على الحكم الشرعي . فهذا هو السؤال الصحيح للمسألة .
وتشديد النكير على من أنكر قدرة العقل على الحكم لا داعي له إذ المنكر لا ينكر هذه العموميات وألا كيف قال الكفار : ] إنما نحن مصلحون [ حينما قيل لهم : ] لا تفسدوا في الأرض [فإنهم ارجعوا أفعالهم إلى الصلاح وليس إلى الفساد ومعنى ذلك أنّهم يحكمون عموماً بحسن الصلاح وقبح الفساد .
بيد أن الاختلاف في الأفعال وأفرادها فعلاً فعلاً والحكم على كلّ منها أنّه من الصلاح أو الفساد هو موضوع البحث فالادعاء أن الخلاف هو في القيم الذاتية للأفعال فيه مخادعة إذ لا خلاف في كونها تنطوي على قيم ذاتية .


المسألة (22): في تحرير آخر للمسألة
أجيب على السؤال السابق : هل للعقل قدرة على معرفة القيمة الذاتية للفعل قبل فرض حكم الشارع عليه … أجيب عليه بنعم له قدرة على ذلك .
أقول ذلك بعد تصحيح صيغة التحرير والتي أوردها المظـفر بصورتها الصحيحة بعدما اطمأن إلى أن القارئ قد أصبح في صفّه من حيث أنّه يحكم بقدرة العقل على الحكم المستقل عن الشرع .
لكن الغريب ومع كلّ هذا الكمّ الكبير من المجادلات في المسألة بين المذاهب وبين علماء كلّ مذهب فإنهم لم يحدّدوا المقصود بهذا العقل تحديداً صارماً … وإنما ذكروا أنّه العقل العام أو هو العقل بما هو عقل أو ( عقل العقلاء ) .. وهذه كلّها عبارات موهمة فإنهم ومثلما انتقلوا من العام إلى الأفعال الخاصة وأفرادها انتقلوا من الأحكام القبلية إلى الأحكام التركيبية في مخادعة مشينة للقرّاء يؤسف جداً أن يقوم بها علماء ورعون وأتقياء مثلهم وهو ما سأكشف عنه في المسائل اللاحقة بعد تحديد عناصر البحث الكاملة .
ذلك أن العقل بهذا المعنى – عقل العقلاء – لا وجود له في النص الدِّيني ( القرآن والسنة ) كما سنرى . والتحرير الآخر للمسألة جاء على النحو الآتي:
((هل للعقل بعد حكمه على شيء بالحسن أو القبح أن يحكم بأنّه يكون كذلك عند الشارع أو لا ؟ ))
اختلفوا في ذلك إلى حد التناقض إذ منع منه الا شعرية والاخباريون من الإمامية واثبته الأصوليون من المعتزلة والإمامية .
وأساس الخلاف هو في تحديد المقصود بـ ( الشيء ) هنا فهي العبارة المهمة في هذا التحرير . لأن الشيء إن كان المقصود به الكلّيات مثل الظلم فالعقل يحكم قطعاً أنّه قبيح ويحكم كذلك أن العدل حسن ويحكم قطعاً أن الشرع يحكم بهذا الحكم . وإنما منع منه المانعون لأنهم أدركوا أنّ المقصود بالشيء ليس الكلّيات . بل إرجاع الأفعال إلى عناوينها الأصلية فمثل هذا الحكم حكمٌ تركيبيٌّ ومعناه أن العقل قادر على الحكم على كلّ فعل وكلّ حركة وكلّ عمل فيما إذا كان حسناً أو قبيحاً والتالي فإن السؤال عن هذا النوع من الأحكام وهل يحكم العقل بأنّها ستكون كذلك عند الشرع إنما هو سؤال عن فائدة الشرع نفسه وهو شيء متناقض مع التعريف إذ لو كان للعقل هذه القدرة على التفصيل وإرجاع كلّ فعل إلى عنوانه لما كانت هناك حاجة إلى الشرع ولاكتفى المولى بحجّة العقل وحده . وفي هذا وحده دليلٌ كافٍ على أن العقل لا يقدر على بعض الأحكام وقد اقرّ به الأصوليون من خلال الاعتراف بوجود ( غير المستقلات العقليّة ) . لكن المؤسف أن هذا الاعتراف لا فائدة منه إذ المقصود من المبحث ليس الأحكام القبلية العامة بل التفصيلية لأن الغاية من المبحث الاستفادة من الحكم العقليّ لتحديد العمل والموقف من الحكم الشرعي ، بل لتحديد نفس الحكم الشرعي عند ضعف أو غياب الأدلة كما هو معلوم . وهذا كلّه من التفصيل وفق التعريف المتضمِّن لقيد ( التفصيلية ) .
نعم أثبتوا قدرة العقل من خلال الحكم العام والكلّيات و طبّقوه على التفاصيل وهذا هو مكمن المخادعة في البحث .
إذن فالواجب أن تتغير صيغة تحرير المسألة ليكون السؤال عن سبب قدرة العقل على الحكم العام دون التفصيلي وعن العلـّة في اختلاف الخلق في الحكم رغم توحد عقولهم إذا تعلـّق الأمر بالتفاصيل . فكلّ طاغية يقول لك أن الظلم قبيح والعدل حسن ولكن المشكلة أنّه يختلف معك في اعتبار أفعاله من الظلم فهولا يقرُّ بذلك و يرى أنّها حسنة . والواجب البحث في هذا الافتراق في الحكم عند الحديث عن الأفعال بما هي أفعال لا بما هي عناوين عامة كالظلم والعدل والتي هي مستندهم في إثبات حكم العقل . ولو فعلوا ذلك لاكتشفوا العنصر الآخر الغائب في البحث .
أما السؤال : هل المولى ينزّل الشرائع على وفق أحكام العقل ؟ وهل يحكم العقل بضرورة التلازم ؟ فهو سؤالٌ متناقضٌ إذا كان المقصود التفاصيل والأفعال فعلاً فعلاً .
ذلك لأنهم أن قالوا ( نعم ) ألغوا ضرورة الشرع وأن قالوا ( لا ) أصبح الشرع من اللامعقولات وكلّاهما خاطئ وهو دليل على أن وضع المسألة بين احتمالين باطلين إنما يشير إلى بطلان صيغة السؤال .
ولذلك حاولوا التخلص من هذا التناقض بافتراضات أخذوها من الفلاسفة ولم يأخذوها من الشرع منها :

الأوّل : تقسيم الحكم إلى واقعي وظاهري :
والغاية من هذا التقسيم واضحة وهو التخلص من إشكاليات العلاقة بين الحكمين العقليّ والشرعي .
وهذا التقسيم شيطاني لا علاقة له بالدِّين . وفيه مخادعة في تغييب مفردة ( العلم ) من التعريف وعدم شرحها ، وإهمالها مقصود لتمرير هذا التقسيم .
وبيانه :أن الحكم نفسه ليست له صورتان ولا ينقسم إلى قسمين وإنما علم المكلّف أو الأصولي به هو العلم الظاهري عند غياب الأدلة .
وإذن فيجب عليهم تقسيم العلم بالحكم إلى علم ظاهري وعلم حقيقي أو فعلي أما حكم الله فواحد ولا ينقسم .
نعم ورد في النصوص المأثورة أن لله تعالى حكم واقعي آخر كما في قصة داود (عليه السلام ) وإبراهيم ( عليه السلام ) أو ما تعلمه موسى ( عليه السلام ) من العبد الصالح ولكن من المعلوم أن هذا أجنبي عن موضوع البحث إذ لا يتنافى الحكمان وإنما أحدهما تفصيلي مؤجل إلى يوم الحساب ولذلك لم يحتمله داود ( عليه السلام ) .

الثاني: تقسيم العقل إلى عملي ونظري .
وهو تقسيم فلسفي أفلاطوني أخذ به الفارابي و سمّاهما العقل المستفيد والمستفاد وبنى عليه أفكاره التي لا علاقة لها بالشرع لا من قريب ولا من بعيد . وفائدته الفلسفية هي إشراك الحكم العقليّ مع الحكم الإلهي حسب نظريّة الفلاسفة في المعرفة لأنهم قالوا : ( أن أشبه الخلق بالآلهة هم الفلاسفة )(2).
وجرى التقسيم المذكور على أساس أنواع المدركات فإذا كانت علماً مجرّداً مثل اثنين واثنين يساوي أربعة والمتوازيان لا يلتقيان فهو من واجبات العقل النظري . وأن كانت المدركات مما ينبغي أن يفعل أولا يفعل فهي من نشاطات العقل العملي .
وأخذ الفقهاء بهذا التقسيم لربطه بالأفعال في التعريف إذ هي المقصود حسب التعريف من عبارة أصول الفقه حيث قال : ( أعمال أو أفعال المكلّفين ) – راجع التعريف . لذلك فالمراد من العقل :( هو العقل العملي في مقابل العقل النظري )(3).
ولمّا كان التعريف مناقضاً للخطاب الكلّي ومتناقضاً مع نفسه كما رأينا فالتقسيم باطل ، وفائدته تمرير الحكم العقليّ المسبق مع الحكم الشرعي أو ترتيب برهان سوفسطائي للملازمة بين الحكمين .
على أن هذا التقسيم المفترض لا برهان عليه وليس هو حقيقة في نفسه الا لهذا الغرض وقد اعترف به المدافعون عن الملازمة حيث قالوا :
( وليس هناك عقلان في الحقيقة بل هو عقل واحد ولكن للتمّييز بين مدركاته ومتعلقاته يسمّى تارّة عملياً وأخرى نظرياً )(4).
ولو كان التمّييز بين أوّليات العقل وأحكامه التركيبية الأخرى فإنه قد يصحّ و ينتفع به ، ولكن الغريب أنّهم أثبتوا قدرته على الحكم من خلال أوّلياته التي لا شكّ فيها ولا اختلاف بشأنها لغاية مناقضة لها وهي الأخذ بأحكامه التركيبية !! .



التناقــض في التقســيم :
من جهة أخرى فهناك تناقض آخر في التقسيم أعلاه . فإن صاحب الأصول زعم أن موضوع العقل والمراد منه هو ( العملي ) تحديداً ، خالفه في الجزء الثاني مضطراً ، لأنه ناقش هناك حجّية العقل في الحكم ولا بدّ له من البرهنة على استقلاله بالحكم . ولذلك قال: ( كلّ ما للعقل العملي من وظيفة هو أن يستقل بإدراك أن هذا الفعل في نفسه مما ينبغي فعله أولا ينبغي مع قطع النظر عن نسبته إلى حاكم آخر كالشارع المقدس أو غيره يعني أن العقل العملي يكون هو الحاكم في الفعل لا حاكياً عن حاكم آخر )(5).
وفيه تناقضان فاضحان :
الأوّل : أن الحكم على الفعل بكونه ما ينبغي فعله أولا ينبغي لا يحدث جزافاً كما هو معلوم . وإنما هو مبنيٌّ على مسلّمات . فهذه المسلمات هي الحكم في واقع الأمر ، وهذا يعني أن الحاكم هو النظري لا العملي وغايتي من ذلك إبراز فساد التقسيم وأحسبه قد توضّح للقارئ الكريم .
الثاني : إن استقلاله بالحكم وعدم حكايته عن حاكم آخر إنما هو حديث عن مسلّماته الأوّلى وهي النظرية لا العملية لأن العملية ومع الإقرار بالتقسيم إنما هي أحكام تركيبية ذات علاقة بالأفعال واستقلاله بها محال في ذاته.
ثم قال : ( وإذا حصل للعقل العملي هذا الإدراك جاء العقل النظري عقيبه فقد يحكم بالملازمة بين حكمه وحكم الشرع وقد لا يحكم . ولا يحكم بالملازمة الا في خصوص مورد مسألة التحسين والتقبيح العقليّ أي بخصوص القضايا المشهورات التي تسمى بالآراء المحمودة والتي تطابقت عليها آراء العقلاء كافة بما هم عقلاء ) .
أقول هذا هو ختام المسك في حديث حجّية العقل ويظهر منه بجلاءٍ تامٍّ أنّه يتحدّث عن المسلمات الأوّلى في العقل ! فما علاقتها بالأفعال ؟ ذلك إن إرجاع كلّ فعل إلى عنوانه هو حكم جديد ولا فائدة من التقسيم ، إذ من الواضح أن الحكم بالملازمة ليس عقب الحكم العقليّ المستقل بل هو قبله .
أما تطابق آراء العقلاء كافة بما هم عقلاء فالمراد به جميع الخلق العقلاء ولنا فيه كلام آخر أوّله أن هذا الاتفاق وهمٌ لا وجود له الا في المسلمات الأوّلى والتي يرفض الكفرة مثلا الإقرار بانطباق الموضوعات عليها وألا فلماذا كفروا ؟ . وعلى ذلك فلا أحدَ يقدر على كشف مثل هذا الاتفاق – وآخره أن انطباق الموضوعات على عناوينها هو موضوع الشرع فإذا حكم به العقل بطل الشرع بل اصبح إرسال المولى عزّ وجلّ للرسل ( عليه السلام ) عبثاً.
ثم هم يتناقضون تارّة أخرى فينسبون جملة من الأفعال إلى الآراء المحمودة.
أما ادّعاءه بان العقل النظري يأتي فيحكم بالملازمة في هذا المورد خصوصاً فهو ادّعاءٌ عجيبٌ إذ لم يوضّح أسباب هذا الحكم في هذا المورد دون سواه ! . والمفروض أن يحكم بالملازمة كلّما حكم العقل العملي بما ينبغي أولا ينبغي أن يُفعل .
بل الواقع خلافه لو قرءوا القرآن . فإن الكثير من أتباع وأصحاب الرسل ( عليه السلام ) وأعداءهم على حد سواء حكموا بما ينبغي أن يُفعل و طلبوا من النبي (صلى الله عليه واله و سلم ) أن يكون حكم الشرع بمقتضاه فابطل الشرع حكم عقولهم وأمره أن لا يتّبع أهواءهم وهم من جملة العقلاء عند الأصوليين .
لكن حكم العقل النظري لصالح العملي لاحقاً هو من الأعاجيب ! أنّه شيء لم يقله ( العقلاء ) الا بخصوص العلاقة مع حكم الشرع إذ لو قالوه لبعضهم البعض لنشب العداء بينهم . فهل التنظير يسبق الفعل أم العكس؟
معلوم أن قرار الفعل وعدم الفعل لا يكون صحيحاً وواقعياً الا بعد التنظير والذين ينظّرون خلال الفعل أو بعده هم دائماً الطغاة والجبابرة حيث تكون عقولهم تبعاً لأهوائهم . ولكنهم اضطرّوا لهذا لإثبات استقلال العقل بالحكم فإن الاستقلال مرتبط بالأسبقية- أسبقية العقل في الحكم على الشرع ، ولذلك ينفعهم التقسيم المذكور لتوزيع الحكمين على العقلين حكم مستقل عن الشرع سابق عليه وحكم نظري آخر يحكم بضرورة التلازم بين حكم الشرع وحكم العقل!! .
و سوف نرى أوجه أخرى للمغالطات والمصادرات في هذه العملية في المسائل اللاحقة .
الثالث : تقسيم المدركات ذاتها إلى ما يستقل بها العقل وإلى ما لا يستقل بها العقل وهو مختلف عن التقسيم إلى مبادئ أوّليّة وتركيبية وهو تقسيمنا الذي اعتمدناه . وفيه تناقض سنوضّحه حيث يستحيل الجمع بينهما بالمعنى المذكور . وفائدته التوصّل إلى أسبقية الحكم العقليّ المستقل عن الشرع في التفاصيل في محاولة غريبة اعتمدوا فيها على الأوّليات بحيث تنطلي على القارئ . إذ المعلوم أن الحكم العقليّ التفصيلي في أيّ شأن لا يبقي أيّة ضرورة للحكم الشرعي . فإرجاع كلّ فعل إلى عنوانه هو المشكلة العقليّة التي جاء الشرع لحلِّها ، ولذلك فصّل الأحكام وارجع كلّ فعل إلى عنوانه من حسن أو قبح . وليست المشكلة في العنوان نفسه إذ لا اختلاف بين الناس في حسن العدل وقبح الظلم ، إنما الاختلاف هو في : هل الفعل الفلاني من العدل أو هو من الظلم ؟ وقد جاء الرسل بالحقّ والكتاب لإزالة هذا الاختلاف قال تعالى:
((وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه)) 64/16.
وهنا حصر بأداة الحصر ( الا ) ومفاده أن الإشكال العقليّ الآنف هو سبب بعث الرسل فالسؤال عن استقلال العقل بالحكم التفصيلي سؤال عن ضرورة الرسول والكتاب ، وفيه رد على المولى . وقال تعالى:
(( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقّ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ))
213/2.
لكن لو قلت أن هؤلاء المختلفين فيهم من عرف الحقّ ، إذ لا يعقل أنّهم اختلفوا وكلّهم على الباطل فيثبت إمكانية العقل على الحكم قبل إنزال الكتاب ، وبعد ذلك جاء الكتاب مؤيداً لأهل الحقّ وهذا هو موضوع الحكم العقليّ والملازمة .
الجواب : نعم . هذا صحيح جداً ولكن المعترض فاتـه أنّهم بقوا لا يدركون من هو صاحب الحقّ .
أعني أن هذا الذي يطابق حكمه العقليّ حكم الشرع موجود قطعاً بيد أنّه ليس مجموع العقلاء ، ولا هو مجموع أهل الدِّين أيضاً ، إذ الاختلاف نفسه قد أبطل فكرة ( العقل العام ) وعلى ذلك فلا بد من تحديد أفراد هذا النوع الذي حكمه العقليّ يطابق حكم الشرع وسوف نلاحظ أن هذا النوع هو ذاته المشّرع أي المعصوم ( عليه السلام ) ، وهذا هو أحد الفوارق الجوهرية بين النظرية الجديدة والأفكار السابقة عن العقل التي اعتمدتها المذاهب الإسلامية .
ولكي تكون المسائل اللاحقة واضحة فإني سأعرض جوهر الفكرة الجديدة عن العقل مما يشكلّ نظرية متكاملة في المعرفة آمل أن تكون موضع اهتمّام السادة العلماء المسلمين من حيث أنّها تمّثل نظرية المعرفة من وجهة نظر الدِّين الإلهي والتي سيتمكّن العلماء بها من صياغة الفلسفة الإسلامية والتي ادّعى فلاسفة الغرب المحدثين والنقاد أنّها مجرّد اصطلاح لا حقيقة له إذ هي بمجملها تمّثل آراء ارسطو وأفلاطون وإن محاولات المسلمين لوضع فلسفة إسلامية أو نظرية في المعرفة هي محاولات فاشلة .
وأنا اعتقد بصحّة هذا القول لأن ما بين أيّدينا من آراءٍ للمسلمين في الفلسفة تتناقض بالكامل مع الطرح القرآني وإن محاولة التوفيق بين الفلسفة والوحي هي محاولة فاشلة فعلاً . ولذلك تمّكّن الغزالي من تكفير أكابر الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا بأيسر السبل .
كذلك تمّكن ابن الطفيل من توجيه نقد مماثل إلى الفارابي فهو عنده ( مضطرب متناقض يفضّل العقل على النقل والمنطق الارسطي على الوحي ، والفلسفة على الشريعة والفلاسفة على الأنبياء ويفسّر الوحي تفسيراً نفسياً وينسبه إلى النشاط الذهني وقوة الخيال والتلقي عن العقل الفعال )(6).
وبصفة عامة فإن ما لدى الأصوليين من آراءٍ حول العقل هي ذاتها آراء الفلاسفة والتي كانت المستند الأساسي لهم لإنكار الوحي بل والسير في طريق الاستدلال المعكوس لاثبات واجب الوجود والذي قدّمت عليه نقداً شديداً في كتابي ( الحلّ الفلسفي ) . وقد اعتمدت هذه الآراء ذاتها لتأسيس المثالية والفلسفة المادية على حد سواء فإن الاعتراف بوجود الخالق تعالى لدى بعضهم لا يعني أيمانهم مما أثبتّه من المعنى الجديد للإيمان وفق هذه النظرية ومعنىً مغايرا للكفر أيضاً ، وهو لذلك من أركان هذه النظرية الإسلامية في المعرفة .
لكني سأختصر الأمر هنا وأذكر ماله صلة بمباحث الأصوليين أعني الكشف عن العنصر الآخر في عملية الإدراك العقليّ والذي سأبطل عن طريقه موضوع المستقلات العقليّة .


هذا البحث القيم مقتبس من كتاب المبحث الاصولي للمرحوم عالم سبيط النيلي

الهوامش

(1) اصول الفقه /ج1/213.
(2) قصة الفلسفة لديودانت /ارسطو .
(3) اصول الفقه /ج1/222 –فقرة (3).
(4) أصول الفقه / ج 1 / 223 .
(5) المصدر السابق / ج 2 / 128 .
(6) العبارات من كتاب ابن طفيل –قضأيّا ومواقف –مدني صالح /37.








الكاتب: خادم المهدي 

0 التعليقات:

إرسال تعليق