Ads 468x60px

الجمعة، 23 نوفمبر 2012

في تعليق العلم بتنجيز الحكم الشرعي

في تعليق العلم بتنجيز الحكم الشرعي









قالوا : أن حكم الله ثابت لموضوعه في الواقع سواء علم به المكلّف أم لم يعلم فإنه مكلّف به على كلّ حال .
وهذا غير تنجّز الحكم إذ أقرّوا أنّه لا يتنجّز على المكلّف على وجه يستحق على مخالفته العقاب الاّ إذا علم به أو قامت لديه حجّة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم(1).
وتبدو الفقرتان متناقضتان لأن التنجّز يحصل فور حصول العلم فعلى من يثبت حكم الله إذا لم يكن هناك مكلّف ؟
وهذا الالتواء في العبارات وجعل ( موضوع ) الحكم تارّة بهذا الاسم وتارّة ( المكلّف ) هو للتخلّص من إشكالٍ أورده الاخباريون .
فهذا المبحث من النوع الذي لم يكلّف الله الخلق بعلمه لكن البحث فيه هو لإثبات اشتراك الأحكام بين الجاهل بالحكم والعالم به ! .
وغايتهم من ذلك إسقاط محاججة الاخباريين القائلة :
إن الشارع نهى عن الأخذ بحكم العقل – وأن كانت له قدرة على الحكم – لأن الحكم لا يتنجّز في هذه المرحلة ولا يجوز الأخذ به الا عند العلم بثبوته عن كتاب أو سنة(2).
معلوم أن حجّة الاخباريين وأن كانت منقولة على لسان خصومهم إذ لم أعثر على شيء من نصوصهم الأصلية فلا يمكن دحضها فإن ثبوت الحكم بغير علم من الشارع محال . وهم يريدون إثباته قبل العلم وإعطاء العقل قدرة على الحكم المسبق وهو محال في ذاته مهما قالوا .
وإذن فقول الاخباريين في الجملة الاعتراضية – وان كانت له قدرة على الحكم – مغالطة فكان عليهم تجنّب الإقرار أصلاً بإمكانية الحكم قبل العلم.
ومع ذلك فإن رد الأصوليين فيه مكر فإن ثبوت موضوع الحكم بغض النظر عن وجود مكلّف هو من الغرائب ! . إذ لا يوجد أيّ معنى للحكم بغير محكوم فيه ومحكوم عليه أو محكوم له . فهم يزعمون إذا غيرنا ألفاظهم الملتوية إلى ألفاظ التعريف أن الحكم ثابت لموضوعه أي المحكوم فيه وأن كان المحكوم عليه أو له لا وجود له .
فإن قلت : أنّهم لا يقصدون عدم وجوده بل عدم علمه بالحكم أقول إذن فأنت المتوهم . لأن تنجّز الحكم بعد علمه لا خلاف فيه والخلاف قبل علمه . فالأخباري يقول : لا يتنجّز قبل العلم . والأصولي تورّط فقال مضطراً : يثبت الحكم لموضوعه وإن لم يتنجّز . فعلينا إذن معرفة الفرق بين العبارتين :
( يثبت الحكم لموضوعه ولو مع الجهل به ) و ( يتنجّز الحكم على المكلّف بعد علمه به)
فكلاهما أقرّهما الأصولي . ولا يظهر الفرق و يتمّ الجمع الاّ عند تصور انعدام المكلّف في العبارة الأولى . إن الغاية من هذا التفريق هي إثبات إمكانية الحكم العقليّ قبل العلم به من خلال طبيعة الحكم نفسه بغض النظر عن المكلّف ! أيّ مع تصور ( عدم وجوده ) .
والدليل على ذلك أن المظفر صاغ الرد الأصولي على هذه الصورة :
( أن الحكم إذا لم يكن مشتركاً بين الجاهل والعالم لكان مختصاً بالعالم ومعناه تعليق الحكم على العلم به ولكن هذا التعليق محال لأنه يلزم الخلف )
ثم قال : ( بيان لزوم الخلف : إن الحكم لو كان معلـّقاً على العلم به كوجوب الصلاة مثلا فإنه يلزمه عدم الوجوب لطبيعي الصلاة ! )
والآن إذا فهمت الأمر فقل معي : لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم ! .
ذلك أن الأنس والجن لو اجتمعوا لإثبات أن الحكم غير متعلِّق بالعلم به كما يقول المظفر لما قدروا فهذا هو المحال .
والتشبث بطبيعة الحكم بغض النظر عن موضوعه تهافت فإذا صدقوا فليبيّنوا موضوع الحكم الذي اعترفوا به كلفظ في الجملة بدلا عن المكلّف لأن موضوع الحكم هو المكلّف نفسه لا سواه من الاشياء ، وإنّما الاشياء محكوم فيها له أو عليه فلا قيمة لها بغيره إذ لا صلاة بلا مصلي فهل هناك مفهوم للصلاة منفصل تماماً عن وجود المصلّي ؟ وهل تسمي هذه المحاولة اليائسة منطقاً صحيحاً؟
لكن يعجبني أن اذهب معه في هذا الخيال المحض من الأوهام واعترف له بأنّه يستلزم منه بالفعل عدم وجوب طبيعي الصلاة حسب تعبيره ثم أقول : ثم ماذا ؟ فلتنتفي كلّ الأحكام من أصلها حينما لا يكون هناك مخلوق مخاطب بها فماذا ينتج؟
أينتج من ذلك أن هذا المكلّف المنتفي الوجود أو المغضوض عنه الطرف له حكم عقليٌّ مسبق قبل الشرع ؟
ذلك أن انتفاء طبيعي الصلاة ليس له معنى ولم ينتج أصلاً الا بعد انتفاء المكلّف والذي عقله هو موضوع البحث !! فهل فطنت الآن إلى التناقض العجيب في هذه الدعوى ؟
لكن لو رجعنا إلى الخطاب الإلهي لوجدنا قانوناً معاكساً لما يقوله المظفر بالنيابة عن الأصوليين . هذا القانون الفطري هو أن الله لا يؤاخذ العباد الا بعد التبيين والبلاغ وحصول العلم .
والذي يقول خلافه يوقع نفسه في ورطة عظيمة مع الله إذ من المحتمل أن يحاسبه يوم القامة على كلّ حكم نزل به وحي من السماء فإذا قال : والله يا رب وعزتك ما سمعت به ولا علمت تحاوشته الزبانية بالسياخ قائلين : أوَ لم تزعم أن عقلك يحكم به قبل العلم ، لا تعتذر بهذا العذر فقد ألغي من قائمة حسابك هات العمل بكلِّ حكم نزل به وحي السماء من صحف آدم وإبراهيم وموسى إلى قرآن محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام مروراً بزبر الأوّلين واحداً فواحداً فهل تراه يتخلّص من قبضتهم ؟
من جهة أخرى أشاروا إلى أن الاخباريين علّقوا الحكم على مطلق العلم وقالوا هذا هو المفهوم من كلامهم .
أقول : مع أني لا امتلك النص الأصلي لكني أراه تقوّلاً عليهم لأن مرادهم واضح من تلك النتف وهو أن ما لا نعلم ثبوته من الشرع فليس بالإمكان القطع به وأن حكم به العقل لأن الشارع يحاسب على التبليغ لا على تصورنا العقليّ المسبق وهذا هو التنجّز في الحكم . وإذن فهم يقصدون العلم بالأحكام التفصيلية لا مطلق العلم أو العلم الإجمالي لأن لأحكام المفصلة هي موضوع الخلاف وفيها تظهر ثمرة الحكم العقليّ المستقل إذ لا خلاف في حكمه العام بالحسن والقبح كما أوضحنا فليس القوم جهلاء حتى يشنعوا عليهم و يزعموا أنّهم أنكروا كلّ قيمة للعقل !وإذا لم تكن أفكارهم ذات قيمة إلى هذا الحد فلماذا لا نجد لهم كتاباً واحداً في الأسواق ولو أسوة بكتب الملاحدة التي تملأ الشوارع والأرصفة وألوف الكتب التافهة الأخرى ؟
إن علاقة العلم بالحكم تظهر جليّة في أحد نصوص الإمام الصادق (عليه السلام) حيث تسقط محاولة الأصوليين بهذا النص مباشرة وهي قوله (عليه السلام) :
(( أن الله تبارك و تعالى لا يرضى أن يُعبد إلاّ من حيث يريد هو لا من حيث يريد العبد )).
ومعلوم أن المحكوم عليه لا يمكنه معرفة إرادة الحاكم الا بعد العلم بها .


هذا البحث القيم مقتبس من كتاب البحث الاصولي
للمرحوم عالم سبيط النيلي


(1) عن أصول الفقه للمضفر /32/ج2

(2) عن أصول الفقه ج2/130.







الكاتب: خادم المهدي  

0 التعليقات:

إرسال تعليق