Ads 468x60px

الاثنين، 27 أغسطس 2012

الاستحسان الفقهي عند فقهاء الحوزة الاصولية

الاستحسان الفقهي عند فقهاء الحوزة الاصولية


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعداء آل محمد من الاولين والاخرين من بدء الزمان الى قيام يوم الدين



القول مني في جميع الأشياء قول آل محمد، فيما أسروا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني




الاستحسان قاعدة أصولية اعتمد عليها أغلب فقهاء العامة وهي دليل عقلي بل إنه إتباع للهوى ولما تشتهيه النفس , وقبل أن نبدأ بالكلام نحب أن نبين بأن الاستحسان في اللغة هو: ﴿عدُّ الشيء، واعتقـاده حسناً سواءً أكان حسياً، كاستحسان الثوب، أم معنوياً كاستحسـان الرأي، فيقـال : استحسنتُ كذا : أي اعتقدته حسناً﴾ لسان العرب - ج13 - ص117
وقع بين فقهاء العامة تنازع كبير واختلاف شديد في حجية الاستحسان من جهة اصطلاحهم , وقبل أن نسرد أقوال المتنازعين يجب علينا أولا معرفة ماهية الاستحسان عند فقهاء العامة ثم نعرج بعد ذلك على الاسماء الجديدة للاستحسان التي ابتدعها فقهاء المدرسة الاصولية الامامية.

إن الاستحسان عند الأصوليين من فقهاء العامة له اشكال عديدة وأنواع مختلفة إلا أن أغلب هذه الأنواع ان لم نقل كلها تصب في قسمين هما :


الأول : الاستحسان بالعقل دون الاستناد إلى دليل :

ذكر الفقهاء فيما يخص الاستحسان بالعقل العديد من الأقوال التي تكاد تكون متشابهة منها ما ذكره السرخسي في تعريفه للاستحسان حيث قال ما هذا نصه : ﴿العمل بالإجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا﴾ أصول السرخسي - أبو بكر السرخسي - ج 2 - ص 200
وهذا التعريف غريب غاية الغرابة حيث اننا قد علمنا من خلال القرآن والسنة بأن الشرع لم يترك شيء لآرائنا بل ان النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ لم يحكم برأيه , فكيف يجوز لنا ما هو محرم على رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ ؟! وهذا يكفي لبطلان التعريف الانف الذكر .
وذكر السرخسي أيضاً الاستحسان في كتاب آخر قائلاً : ﴿الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة﴾ المبسوط - السرخسي - ج 10 - ص 145
وقال الغزالي : ﴿وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله﴾المستصفى - الغزالي - ص 171 , وقالوا أيضاً : ﴿مذهب لا دليل عليه﴾المنخول - ص477 , وقالوا بأنه : ﴿ترك القياس بما يستحسنه بعض الناس من غير دليل﴾ المسودة - ص454 / التمهيد - لأبي الخطاب - ج4 – ص 96 , وقالوا بأنه : ﴿دليل ينقدح في نفس المجتهد، لا يقدر على التعبير عنه﴾روضة الناضر وجنة المناظر - بن قدامة المقدسي - ج2 - ص535 / البحر المحيط – ج 6 - ص93 , وقال الآمدي: ﴿لا شك أن الاستحسان قد يُطلق على ما يميل إليه الإنسان ، ويهواه، من الصور، والمعاني، وإن كان مستقبحاً عند غيره﴾الاحكام – الآمدي – ج 4 – ص 391

إن الملاحظ عند فقهاء العامة في قضية الاستحسان انهم يذهبون إلى ان الشريعة موكولة إلينا نتصرف بها كيفما نشتهي وبما نحب وإذا كان الأمر كذلك – وهو محال – فإن بعث الأنبياء والمرسلين يكون عبث ليس إلا لأننا باستحساننا نستطيع أن ندرك ما تريده الشريعة منا فما هو الداعي بعد هذا لأن يرسل الله تعالى إلينا الأنبياء والمرسلين لهدايتنا إذا كنا قادرين باستحساننا أن ندرك ما يريده الشرع منا ؟؟


إن قضية الاستحسان من القضايا المضحكة والمؤلمة في تأريخنا الإسلامي إذ أنها بجملتها هراء محض , فكيف يرضى عاقل ان يتلاعب بشريعة الله بما يستحسنه ؟ ويعد الذي أستحسنه كشرع الله المنزل على نبينا , وبالمقابل يستقبح غيره نفس المسألة ويعد ما أستقبحه كشرع الله أيضاً وهكذا تراهم يستقبحون ويستحسنون المسائل وينسبون ما قالته أنفسهم وذهب إليه هواهم إلى شريعة الله تعالى فهل يفعل هذا عاقل وسندع باقي الكلام إلى حين الانتهاء من القسم الثاني .



الثاني : القول بأقوى الدليلين وهو قسمان :

القسم الأول: الاستحسان بمعنى ترك القياس إلى ما هو أولى منه كقياس أقوى منه مثلاً أو ترك القياس والأخذ بما هو أسهل واوفق للناس .
قال السرخسي : ﴿ هو الدليل الذي يكون معارضا للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إنعام التأمل فيه﴾أصول السرخسي - أبو بكر السرخسي - ج 2 - ص 200 , وقال أيضاً : ﴿الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس ﴾ المبسوط - السرخسي - ج 10 - ص 145 , وحكي عن بعض الحنابلة بانه : ﴿ترك القياس لدليل أقوى منه؛ من كتاب ، أو سُنة ، أو إجماع ﴾المسوَّدة - ص454 .

إن القياس إذا كان حجة –وهو محال- فلا يجوز ترك الحجة إلى مايهواه الناس بأوهامهم , أما إذا تحقق أن الدليل يعارض القياس فإن في هذه الحالة أما أن يكون الخلل في الدليل أو الخلل في القياس , وبما أن الفقهاء قد استحسنوا الدليل وتركوا القياس فإن فعلهم هذا يؤكد عدم مصداقية القياس في كل الحالات وعليه فإن إتباع القياس لا يؤدي بنا إلى العصمة في معرفة الأحكام كما أن فعلهم هذا يبطل العمل بالقياس أيضاً لأنهم تركوه لعلة الخطأ في إتباعه وإذا كان إتباع القياس يؤدي بنا إلى نتائج خاطئة فإن إتباع هذا السبيل باطل عقلاً فكيف يصح لعاقل أن يسلك سبيل يؤدي به إلى الخطأ وهذا الخطأ يؤدي به إلى عصيان الشريعة وأرتكاب المعاصي بمخالفة أحكامها فإن المؤمن العاقل لا يمكنه أن يسلك هذا السبيل إطلاقاً وهذا هو العقل الذي ورد ذكره في الأخبار الشريفة , فإن العاقل من أطاع الله وترك السبل التي تؤدي إلى عصيان الخالق والقياس من السبل التي تؤدي بنا إلى العصيان ومخالفة الشرع وهذا ما أقره الفقهاء في هذا القسم من الاستحسان حيث أنهم أستحسنوا ترك القياس الظاهر إلى ما هو أقوى منه كدليل من الكتاب أو السُنة أو غيرها أو انهم استحسنوا ترك القياس لما هو أوفق على الناس وفي كل الحالات قد أثبتوا ضعف الاستدلال بالقياس وأعترفوا بوجود دليل اقوى منه فتبعوه ويبقى السؤال إذا كان هذا الدليل من الكتاب والسُنة فلا إشكال في المسألة إطلاقاً بل انه يثبت بطلان القياس لتعارض القياس مع الكتاب والسُنة , أما إذا كان الدليل هو الاستحسان وهذا هو مرادهم من القسم الأول فإن ترك السبيل الباطل إلى مثله ليس من سمات العاقل أيضاً لأن العاقل هو من خالف هواه وأتبع أوامر الله وليس العاقل هو من خالف القياس وأتبع هواه .



القسم الثاني: الاستحسان بمعنى ترك الدليل لعرف أو لمصلحة أو نحوهما .

وقد عبر فقهاء العامة عن القسم الثاني بتعبيرات متشابهة المعنى منها ما قاله القاضي أبي يعلى من الحنابلة حيث قال بانه : ﴿ترك الحكم إلى حكم أولى منه﴾ العدة - ج5 - ص1607 /روضة الناظر - ج2 -ص531 . وذهب الاسمندي من الحنفية إلى القول : ﴿ترك وجه من وجوه الإجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه﴾العدة - ج5 - ص1607 /روضة الناظر - ج2 -ص531 , وقال بهذه المقالة كلا من الآمدي الشافعي وأبو الحسين البصري (راجع : المعتمد - ج2 - ص296) , من المعتزلة وغيرهم وذهب الكرخي من الحنفية إلى القول : ﴿أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه﴾ كشف الأسرار للبخاري - ج4 - ص7-8 .

إن الدليل إذا كان حقاً لا يمكن ان يترك لعرف أو لإجتهاد أما الأول فلكوننا مسلمين لا بد أن نتبع دليل الشرع حتى وان خالف اعرافنا وكم من عرف في المجتمعات الإسلامية يخالف الشرع.

وأما الثاني لعلمنا بأن نتائج الإجتهاد تختلف من مجتهد لآخر وعليه فإن كل مجتهد حين يحكم في مسألة ما يرى من وجهة نظره ان حكمه هو الصواب ولهذا فإنه يستحسن ما حكم به والحال هذه في غيره من المجتهدين فإنهم أيضاً يستحسنون ما حكموا به وإن كان مخالفاً لغيرهم من المجتهدين وبهذه النتيجة فإن الأحكام ستكون مستحسنة من قبل البعض ومستقبحة من الآخرين وهل هذا شرع الله أم انه إتباع للهوى ولما تشتهي النفس البشرية وهذا يكفي لبطلان قولهم .

إن الفقهاء مهما أختلفوا في تحديدهم للاستحسان لا يعد اختلافهم هذا إلا في التسمية أما المعنى فإنهم متفقون عليه كما صرح بهذه المسألة أبن قدامة في قوله : ﴿ هذا مما لا يُنكر؛ وإن اختُلف في تسميته ؛ فلا فائدة في الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى﴾ روضة الناضر وجنة المناظر - بن قدامة المقدسي - ج2 - ص532 , وقال الآمدي أيضاً : ﴿لا نزاع في صحة الاحتجاج به، وإن نوزع في تلقيبه بالاستحسان، فحاصل النزاع راجع فيه إلى الإطلاقات اللفظية، ولا حاصل لـه﴾ الإحكام – الآمدي - ج4 - ص393 .


وعليه فإن الاستحسان في أغلب حالاته يرجع إلى ما يهواه المجتهد في المسائل التي يعجز عن إتيان الدليل عليها سواءً من الكتاب أو السُنة أو حتى أدعاء الإجماع وعليه فإن الاستحسان لا يرجع أصلاً إلى قاعدة عقلية بل أنه يرجع إلى إتباع الهوى والقول بما تشتهيه النفس وهذه هي حقيقة الاستحسان وان صنف تحت عنوان الدليل العقلي إلا إننا ناقشناه تنزلا منا والا فهو دليل يرتبط بالهوى المجرد وليس بالعقل .




اختلاف الفقهاء في حجية الاستحسان :

أختلف فقهاء العامة في حجية الاستحسان فمنهم من أعطى أهمية للاستحسان لم تعطى حتى للكتاب والسُنة أصلاً كالتي أعطاها له مالك أبن أنس حين قال : ﴿الاستحسان تسعة أعشار العلم﴾المدخل إلى الفقه الاسلامي – ص257 , وقول مالك هذا يحصر تسعة اعشار العلم فيما يستحسنه الفقيه بهواه ! وعشر واحد لباقي مصادر الشرع ! أي الكتاب والسُنة والإجماع وغيرها !! والذي يبطل قوله هو أن الاستحسان لو كان بهذه الأهمية لذكره النبي ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ وعمل به ولأمرنا الكتاب الكريم بأن نعمل بما نستحسنه بل اننا نجد أن الكتاب الكريم لم يجز لنا القول دون علم والاستحسان هو قول بلا علم بل هو القول بما يميل إليه الإنسان بهواه وقد أمرنا الشرع اجتناب إتباع الهوى وأمرنا بالتوقف في الموارد التي لا علم لنا بها .
أما نُفاة الاستحسان فمنهم الشافعي الذي أنكر الاستحسان غاية الانكار وذلك في قوله : ﴿إذا قال الحاكم والمفتي في النازلة ليس فيها نص خبر ولا قياس : استحسن ، فلا بد أن يزعم أن جائزا لغيره أن يستحسن خلافه ، فيقول كل حاكم في بلد ومفت بما يستحسن ، فيقال في الشيء الواحد بضروب من الحكم والفتيا ، فإن كان هذا جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم ، فحكموا حيث شاؤوا ، وإن كان ضيقا فلا يجوز أن يدخلوا فيه ﴾ كتاب الأم – الشافعي - ج7 - ص 301 - كتاب الاستحسان.

إن كلام الشافعي هذا وغيره لو تأمله المنصف لوجده ينطبق على كل معاني الإجتهاد فإن نتائج الاستحسان تعطي الاختلاف في الحكم وكذلك الإجتهاد فإنه يعطي الاختلاف أيضاً بل أن كل مصادر التشريع عند الفقهاء ما خلا الكتاب والسُنة هي موضع اختلاف بينهم بل هي آلة الاختلاف ومصدره والاصح ان تسمى هذه المصادر مصادر الاختلاف لا مصادر التشريع بل انهم قد أختلفوا في أغلب معاني الكتاب والسُنة أيضاً واختلافهم هذا يرجع إلى أدواتهم التي تعاملوا بها مع الكتاب والسُنة وعليه إذا كان الاستحسان محرماً عند البعض لعلة صدور الاختلاف عند أصحابه فإن الإجتهاد وغيره من مصادر التشريع ماعدا الكتاب والسُنة يجب ان تحرم لأنها تنتج الاختلاف عند أصحابها العاملين عليها.

وممن انكر الاستحسان أيضاً الغزالي وهو من الشافعية حيث قال عن الاستحسان ما هذا نصه : ﴿ دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره ، وهذا هوس ، لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق ، ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه ، أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه ، أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ، ولا وجه لدعوى شيء من ذلك ، كيف وقد قال أبو حنيفة : إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال : زنى فيها ، فالقياس أن لا حد عليه ، لكنا نستحسن حده ، فيقول له ، لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد ، وغايته أن يقول : تكذيب المسلمين قبيح ، وتصديقهم وهم عدول حسن ، فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا ، بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت ، فإن تقدير التزاحف بعيد ، وهذا هوس﴾المستصفى - الغزالي - ص 173
وممن أنكر الاستحسان أيضاً هو أبن حزم الظاهري وله أقوال كثيرة في نفي الاستحسان منها قوله : ﴿قال أبو محمد : واحتج القائلون بالاستحسان بقول الله عز وجل : * ﴿ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب ﴾ * . قال أبو محمد : وهذا الاحتجاج عليهم لا لهم ، لأن الله تعالى لم يقل فيتبعون ما استحسنوا وإنما قال عز وجل : * ﴿فيتبعون أحسنه﴾ * وأحسن الأقوال ما وافق القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الإجماع المتيقن من كل مسلم ، ومن قال غير هذا فليس مسلما ، وهو الذي بينه عز وجل إذ يقول : * ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ * ولم يقل تعالى فردوه إلى ما تستحسنون .
ومن المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان ، لأنه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا ما لا نطيق ، ولبطلت الحقائق ولتضادت الدلائل ، وتعارضت البراهين ، ولكان تعالى يأمرنا بالاختلاف الذي قد نهانا عنه ، وهذا محال لأنه لا يجوز أصلاً أن يتفق استحسان العلماء كلهم على قول واحد ، على اختلاف هممهم وطبائعهم وأغراضهم ، فطائفة طبعها الشدة ، وطائفة طبعها اللين ، وطائفة طبعها التصميم ، وطائفة طبعها الاحتياط ، ولا سبيل إلى الاتفاق على استحسان شيء واحد مع هذه الدواعي والخواطر المهيجة ، واختلافها واختلاف نتائجها وموجباتها ، ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون ، ونجد المالكيين قد استحسنوا قولاً قد استقبحه الحنفيون ، فبطل أن يكون الحق في دين الله عز وجل مردودا إلى استحسان بعض الناس ، وإنما كان يكون هذا - وأعوذ بالله - لو كان الدين ناقصا ... واحتجوا في الاستحسان بقول يجري على ألسنتهم وهو : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ، وهذا لا نعلمه ينسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلاً ﴾الاحكام - أبن حزم - ج 6 - ص 758 - 759
وقال أيضاً : ﴿ونحن نقول لمن قال بالاستحسان : ما الفرق بين ما استحسنت أنت واستقبحه غيرك ، وبين ما استحسنه غيرك واستقبحته أنت ؟ وما الذي جعل أحد السبيلين أولى بالحق من الآخر ؟ وهذا ما لا انفكاك منه﴾ الاحكام - أبن حزم - ج 6 - ص 762
وقال الشوكاني بعد أن ذكر الآراء في الاستحسان : ﴿أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلاً ، لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار ، وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء ، بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة ، وبما يضادها أخرى ﴾ إرشاد الفحول – الشوكاني - ص358

إن الفقهاء لم يقدموا أي دليل ناهض لإقامة الحجة على المسلمين بكون الاستحسان حجة شرعية فإن ادعوا الاحتجاج بالكتاب فقط بطل أحتجاجهم فيما تقدم وان أحتجوا بالسُنة فإن الحديث الذي احتجوا به لا ينسب لرسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ أصلاً ليكون حجة عندهم قبل أن يكون حجة على المسلمين وأن احتجوا بالإجماع فإن دعوى الإجماع على شرعية الاستحسان باطلة لوجود المعترضين على المسألة وهذا كله فضلاً عن ورود العديد من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الناهية عن إتباع الهوى في شريعة رب العالمين ومما تقدم يتبين وبشكل واضح بطلان الاحتجاج بالاستحسان .


الاستحسان عند الإمامية :


لم يصرح الإمامية بحجية الاستحسان بشكل معلن كما فعل فقهاء العامة ولعلهم قد استفادوا من تجارب الغير ليتجنبوا ما قيل على الخصوم من التشنيع في إتباع الأهواء في أحكام الشريعة ولهذا نجد فقهاء الإمامية غيروا ما أستطاعوا تغييره من الألفاظ التي استخدمها فقهاء العامة في الاستحسان ليتناسب مع الجو الإمامي العام إلا أن هذا التغيير لم يغير معنى الاستحسان بل هو مجرد تغيير الأسم دون المعنى فقد قال السرخسي في تعريفه للاستحسان ما هذا نصه : ﴿العمل بالإجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع موكولا إلى آرائنا﴾أصول السرخسي - أبو بكر السرخسي - ج 2 - ص 200 .

وهذا القول يزعم به أن الشرع قد جعل بعض الامور موكوله إلى آرائنا وبطلان اوضح من الواضحات وقد تم نقاشها في اكثر من موضع م مواضيع المنتدى المبارك .
إن ما يؤلمنا هو تشابه أقوال الإمامية مع هذه المقالة حيث طرح السيد محمد باقر الصدر نظرية منطقة الفراغ التشريعي وخلاصة هذه النظرية أن الإسلام ترك في نظامه التشريعي منطقة خالية من أي حكم إلزامي من وجوب أو حرمه تسمى منطقة الفراغ (راجع : اقتصادنا – محمد باقر الصدر – ص 721) . ثم قال ان الإسلام وضع منطقة الفراغ الخالية من الحكم تحت تصرف ولي الأمر ليملأها على أساس متطلبات الزمان والمصلحة(راجع : اقتصادنا – محمد باقر الصدر – ص 721) وذهب العلامة الطباطبائي إلى قول مشابه لهذه النظرية حيث قال بأن هذه الأحكام من آثار الولاية العامة منوطة بنبي الإسلام محمد ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ والقائمين مقامه والمنصوبين من قبله وطبقا لمصالح الزمان والمكان قال تعالى : ﴿ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾(راجع : ملامح من الاسلام – محمد حسين الطباطبائي – ص73)
نقول : إن الإسلام قد ترك بالفعل هذه المنطقة الخالية ولكن أمرنا بذات الوقت أن لا نقتحمها والذي يدل على ذلك هو قول أمير المؤمنين ﴿عليه السلام﴾ : ﴿إن الله افترض عليكم الفرائض فلا تضيعوها ، وحد لكم حدودا فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها﴾ نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 4 - ص 24
إن الإسلام أمرنا أن لا نتكلف ما سكت الله عنه فكيف يمكن أن نقتحم هذه المنطقة ونضع لها أحكاماً بما يراه ولي الأمر !! أي ولي أمر ؟ هل هو المعصوم ؟ أم هو الفقيه ؟ بالحقيقة هو الفقيه على حد زعمهم فقد رأينا انهم يفسرون القرآن برأيهم كيف لا ؟ وقد أستشهد السيد الطباطبائي بآية من القرآن على طاعة الفقيه وهي مختصه بآل محمد ﴿عليه السلام﴾ فقد جاء عن أبا جعفر ﴿عليه السلام﴾ عن قول الله عزوجل : ﴿ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ , قال الباقر ﴿عليه السلام﴾ : ﴿إيانا عنى خاصة ، أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا ...﴾ الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 276
فإذا كانت هذه الآية الكريمة مخصوصة بآل محمد ﴿عليه السلام﴾ إلى يوم القيامة فكيف جاز لنا تحريف تفسيرها عما هو عليه ؟
إن أقتحام هذه المنطقة المحظورة والتي سماها السيد الصدر بمنطقة الفراغ التشريعي لا يتم إلا بالقواعد العقلية التي أدرجها فقهاء الإمامية في جملة مصادر التشريع وبالاخص الاستحسان وسوف نأتي الآن لبيان الأسماء الجديدة للاستحسان عند الإمامية :



الشهرة الفتوائية :

الشهرة الفتوائية هي وجه من وجوه الاستحسان الفقهي عند فقهاء الإمامية حيث أن الكثير من الفتاوى عندهم تستند إلى ما يسمى بالشهرة الفتوائية .
إن الشهرة الفتوائية وبمعنى مبسط هي شهرة لفتوى معينة لا تسند على أي دليل أو مستند شرعي سواءً من الكتاب أو السُنة أو أقوال الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ ولا حتى إجماع حيث إنها شهرة لم تصل حد الإجماع لوجود المخالفين لها .
والشهرة الفتوائية من الأدلة المعتمدة عند فقهاء الإمامية عندما يعجزون عن إتيان الدليل على بعض المسائل الفقهية فيفتون معتمدين على الشهرة الفتوائية !!
وقد ذكر فقهاء الإمامية الشهرة الفتوائية في أكثر الكتب الأصولية ان لم نقل كلها وعولوا عليها كثيراً في كتبهم الفقهية في ممارسة عملية الافتاء كما أختلفوا في حجيتها أيضاً .
إن الشهرة الفتوائية أما ان تكون فتوى دون أي دليل تستند عليه وكما قلنا أو ان تكون فتوى مع وجود الأدلة سواءً كانت الأدلة على خلاف الفتوى أو على وفقها وفي كلتا الحالتين لا ينظر الفقيه إلى الدليل الروائي أبداً بل كل ما يهمه في المقام هو شهرة أقوال الفقهاء !!
وقد ذكر البروجردي وآقا ضياء العراقي والشيخ محمد الخراساني وغيرهم كثير الشهرة الفتوائية قائلين : ﴿واما الشهرة الفتوائية فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة من الأصحاب من دون استناد منهم إلى رواية سواءً لم يكن هناك رواية أصلاً أم كانت على خلاف الفتوى أو على وفقها ولكنه لم يكن استناد الفتوى إليها﴾ ( راجع : نهاية الأفكار - تقرير بحث آقا ضياء ، للبروجردي - ج 3 - ص 99 – 100 / نهاية الأفكار - آقا ضياء العراقي - ج 3 - ص 99 – 100/ فوائد الأصول - الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني - ج 3 - ص 153)
وقال الشيخ علي المشكيني : ﴿الشهرة الفتوائية وهي عبارة عن اشتهار الفتوى بحكم في مسألة من المسائل مع عدم استناد المفتين بها إلى رواية اما لعدم وجودها أو لاعراضهم عنها﴾(راجع : اصطلاحات الأصول - الشيخ علي المشكيني - ص 156)
وفي المعاجم الفقهية الجعفرية أيضاً : ﴿ انتشار الفتوى بين الفقهاء انتشارا يكاد يكون مستوعبا دون أن يعلم لها أي مستند ﴾ ( راجع : المصطلحات - إعداد مركز المعجم الفقهي - ص 1505/ معجم ألفاظ الفقه الجعفري - الدكتور أحمد فتح الله - ص 248 – 249)


يتبين لنا مما تقدم أن الشهرة الفتوائية هي الوجه الآخر للاستحسان حيث ان الاستحسان لا يستند إلى أي دليل غير ما يذهب إليه الفقيه والشهرة الفتوائية كذلك أيضاً حيث انها لا تستند على أي دليل غير استحسان الفقهاء بل ان الشهرة الفتوائية قد تفوقت على الاستحسان في عصيان الشريعة حيث انها تسري عند الفقيه حتى وإن كانت هنالك رواية أو حديث ينفيها وإن كان صحيح السند وفق طريقة الأصوليين طبعاً حيث أن الشهرة الفتوائية تكون كاسرة لصحة الرواية !! فلا يعمل الفقيه بالرواية الصحيحة عنده بل يلتجأ إلى الشهرة الفتوائية ويعمل بها وأن كانت هذه الرواية الصحيحة تخالف فتواه وما هو مشهور عند الفقهاء !!


إن الخبر الصحيح عند الأصولية معروف الحجية إلا إنهم اسقطوا هذه الحجية بذريعة أمر غاية في الخطورة وهو إذا خالف الخبر الصحيح ما هو مشهور عندهم أي وبمعنى اقرب إذا كان الفقهاء مجمعين على فتوى في مسألة ما وصل بهذه الفتوى حد الشهرة وكانت هنالك رواية صحيحة السند عندهم تخالف تلك الفتوى المشهورة فبمن يأخذ هل بفتوى الفقهاء المشهورة ام بالرواية الصحيحة التي جاءت عن إمام معصوم ؟

لقد اسقط الفقهاء الأصوليون حجية الخبر الصحيح إذا خالف ما هو مشهور عندهم !! إلا أن السيد الخوئي اختار عدم السقوط بعد أن كان يوافق المشهور في سقوط الحجية عن الخبر الصحيح إذا كان يخالف الشهرة الفتوائية !! (راجع : مصباح الاُصول – ج 2 - ص 203)
في الحقيقة إن هنالك فرق بين الشهرة الفتوائية والشهرة العملية عند الفقهاء , إذ الشهرة العملية : هي الاستناد إلى العمل بالرواية عند الفقهاء وهذا الاستناد لا ينظر من خلاله إلى صحة الرواية أو ضعفها بل تكون الحجة فيه قول الفقهاء بإستثناء الصحة أو الضعف في الرواية المستند إليها في الفتوى فعن النائيني انه قال : ﴿وأما الشهرة العملية فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحتها﴾ (راجع : فوائد الأصول - ج 3 - ص 53)
أما الشهرة الفتوائية فهي شهرة لا تستند إلى رواية ولا يهم عندهم وجود الرواية من عدم الوجود حتى لو كانت هنالك رواية تخالف هذه الشهرة فهي ساقطة وان كانت صحيحة !! ، فقد ورد في فوائد الأصول عن النائيني أنه قال : ﴿وأما الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة لا استناد إلى رواية ، سواءً لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت رواية على خلاف الفتوى ، أو على وفقها ولكن لم يكن عن استناد إليها ، وهذه الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف الرواية ، ... ، ولكن تكون كاسرة لصحة الرواية﴾ فوائد الأصول - الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني - ج 3 - ص 153 – 154 .
وقد استدلوا على صحة الشهرة الفتوائية بقوله ﴿عليه السلام﴾ في رواية أبن حنظلة : ﴿ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكماً به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه﴾ الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 68 .
نقول : إن صدر الرواية يتحدث عن ترجيح اختلاف الروايات عن الأئمة ﴿عليهم السلام﴾ فإن من قواعد الترجيح بين الأخبار الأخذ بالمشهور من الأخبار وترك الشاذ النادر منها , اما الشهرة الفتوائية فهي لا تستند إلى الروايات من الأساس كما يقول النائيني بل هي عبارة عن اشتهار فتوى عند الفقهاء وليس اشتهار خبر أو حديث حتى نطبق عليه قاعدة الشهرة فهذا تناقض عجيب .
إن من مهازل الدهر هو اسقاط كلام المعصوم وهم يعترفون بصحته سنداً وفق قواعدهم الرجالية واعلاء الشهرة الفتوائية عليه والتي صدرت من أناس فاقدي للعصمة وقولهم لا يقارن أبداً بقول المعصوم فقد جعلوا قول الفقهاء حجة ولم يجعلوا قول المعصوم حجة !!


إن الشهرة الفتوائية ما هي إلا استحسان لبعض الفقهاء ثم قلدهم الآخرون فيما يقولونه دون فحص أو تحقيق ومن العجيب ان الشهرة الفتوائية لا تصل إلى مستوى الإجماع أي انها أقل من الإجماع رتبه حيث يشتهر عند البعض فتوى دون دليل فيعملون بها وكذلك يمكن أن تشتهر فتوى أخرى على خلاف تلك الفتوى عند أخرين فيعملون بها وكل هذا طبعاً بغض النظر عن الدليل بل لا يُتعب نفسه الفقيه حتى في البحث عن الدليل بل يكتفي بالقول ان هذه المسألة مشهورة عند الفقهاء ! ومما تقدم يتبين لنا الوجه الأول للاستحسان عند الإمامية .




الـــذوق الفقهـــي :

الذوق الفقهي هو الوجه الثاني من وجوه الاستحسان عند الإمامية حيث أن الفقيه الإمامي عند انعدام الأدلة الإجتهادية والأصولية عنده تنشأ الملكة الفقهية أو ما يسمى بالذوق الفقهي لديه وهي التي تميزه عن غيره من الفقهاء والذائقة الفقهية هي المنهج الذي يخطه الفقيه لنفسه من خلال عقله , وتتباين الذائقة الفقهية عند فقهاء الإمامية من فقيه إلى آخر قوة وضعفاً كما يقول الفقهاء .
يقول الشيخ محمد مهدي الاصفي : ﴿لا بد أن يملك الفقيه ذوقاً فقهياً سليماً خالياً من التعقيد بعيداً عن التكلف مسترسلاً في فهم الحكم الشرعي فإن الذوق الشخصي والنظرة العامة التي تتكون لدى الفقيه عن الفقه تؤثر كثيراً في فهمه للأدلة والقواعد .
ويسمى عادة هذا الذوق الفقهي بالشمّ الفقهي ولا يستغني الفقيه عن هذا الشمّ الفقهي أو الذوق الفقهي في الاستنباط مهما بلغ علمه بالأصول والقواعد﴾( بحث للشيخ محمد مهدي الاصفي بعنوان التقليد من موقعة الخاص (http://alasefi.net/asefi/))

وقال الشيخ محمد مهدي الاصفي في مقدمة كتاب أصول الفقه للشيخ المظفر : ﴿وهناك طائفة أخرى من الأدلة والحجج يتوصل بها الفقيه إلى الوظيفة الشرعية ، وليس الحكم الشرعي الواقعي ، وذلك في ظرف الجهل بالأحكام الشرعية الواقعية ، وعندما يفقد الفقيه الأمارات والحجج والأدلة الإجتهادية التي يتوصل بها إلى الأحكام الواقعية . . . في هذه الحالة يوظف الفقيه النوع الثاني من الأدلة والحجج ، وهي " الأدلة الفقاهتية " ليتوصل بها إلى الوظيفة الشرعية أو العقلية في ظرف الجهل بالحكم الواقعي . . . فلا بد للمكلف من موقف عملي في ظرف الجهل بالحكم الشرعي الواقعي من براءة أو احتياط أو غيره . . . وهذا الموقف العملي هو الوظيفة الشرعية ، ويصطلح عليها فقهاء هذه المدرسة ب‍ " الأحكام الشرعية الظاهرية " في مقابل " الأحكام الشرعية الواقعية " ، ويصطلحون على الأدلة التي يتوصل بها الفقيه إليها ب‍ " الأدلة ، الفقاهتية " في مقابل " الأدلة الإجتهادية " أو " الأمارات " التي يتوصل بها الفقيه إلى الأحكام الشرعية الواقعية﴾أصول الفقه - الشيخ محمد رضا المظفر - ج 1 - ص 19


وذكر الشيخ أحمد المبلغي ما يسمى عند الفقهاء بالـ ﴿الذوق الفقهي﴾ في معرض حديثه عن الشهيد الأول الشيخ زين الدين العاملي ما هذا نصه : ﴿تركيز بعض الفقهاء على روح الشريعة ، أو تركيزهم على قضية المناطات وسيما اهتمامهم بقضية مذاق الشريعة أو الذوق الفقهي، هذه كلها أدبيات وراءها شيء لا يرتبط بالدليل اللفظي أو حتى بالدليل العقلي ولا صلة لهذا الذي كامن تحت هذه الأدبيات مثل مذاق الشريعة أو الذوق الفقهي أو روح الشريعة وحتى المناطات، ليس هذا أمر يرتبط بقضية الأدلة اللفظية أو الأدلة العقلية بل هي أدلة لو أردنا أن نسميها، فيمكن أن نعطي لها أسما، يمكننا أن نقول أدلة وجدانية وسيما أن كلمة الوجدان قد دخلت جل البحوث العلمية الفقهية لعلمائنا، وقد بلغ ذكر وطرح أدبيات الوجدان إلى حد نلحظها في الكثير من البحوث الفقهية أو الأصولية، الوجدان الفقهي تغطية عامة لما يندرج تحته من الذوق الفقهي أو محاولة الحصول على المناسبات القائمة بين الموضوع والحكم أو مذاق الشريعة أو روح الشريعة، فكلها تحت هذه التغطية ؛الوجدان الفقهي﴾ الندوة الشهيد الثاني (الشيخ زين الدين العاملي) .. فقهه ومنهجه الاجتهادي - حوار مع الشيخ أحمد المبلغي والشيخ محسن الأراكي والشيخ حيدر حبّ الله - أعدّ الندوة السيد عبدالرحيم التهامي -
http://www.dte.ir/portal/Home


إن مسألة " الذوق الفقهي " أو " الشم الفقهي " أو " الأدلة الفقاهتية " كما يسمونها لا ترتبط باي دليل غير الوجدان ! أي وجدان هذا الذي يعتبر دليلاً شرعياً هل أوصانا أئمتنا ﴿عليهم السلام﴾ بدليل الوجدان ام قالوا لنا اتبعوا الشم أو الذوق ؟

أي تشريع هذا وأي شريعة تتبع بالشم والذوق والفقاهتية ؟ وقد قال رسول الله ﴿صلى الله عليه وآله وسلم تسليما﴾ : ﴿...إنما الدين من الرب أمره ونهيه﴾ وسائل الشيعة-الحر العاملي- ج 27 - ص 61
وعن أمير المؤمنين ﴿عليه السلام﴾ أنه قال في كلام له : ﴿الإسلام هو التسليم ... إلى أن قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه﴾ وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 27 – ص45

فإذا كانت أوامر الدين لا تأخذ إلا من الرب وحده فما هو الداعي لإتباع الشم والذوق والفقاهتية لمعرفة الدين ؟؟ وإذا كان هذا الشم والذوق والفقاهتية توصلنا لمعرفة أوامر الدين كان حري بالأئمة ﴿عليهم السلام﴾ أن يعرفوننا بهذه المصادر ! والحق يقال أن الشم الفقهي أو ما يسمى بالذوق الفقهي أو الأدلة الفقاهتية ما هي إلا وجوه للاستحسان الفقهي , إلا أن الفقهاء بدلوا لفظ الاستحسان بألفاظ أخرى مع القليل من الاستحياء .


إن مسألة الذوق الفقهي أصبحت هي الفيصل في معرفة المسلك الصحيح عند اختلاف الفروع الفقهية كما قال السيد محمد سعيد الحكيم : ﴿لا ريب في اختلاف الفروع الفقهية في الاحتياج إلى دقة النظر واعمال الذوق الفقهي ، لابتناء بعضها على بعض الاستظهارات الخفية والالتفات للنكات الدقيقة أو بعض وجوه الجمع العرفي المحتاجة لحسن السليقة﴾ المحكم في أصول الفقه - السيد محمد سعيد الحكيم - ج 6 - ص 298


إن الذوق الفقهي أصبح عند فقهاء الإمامية ركيزة فقهية يرتكز عليها الفقيه في الافتاء والتحليل الفقهي ولهذه الركيزة تطبيقات في مختلف مسائل الفقه منها ما ذكر في بحث الروحاني للحكيم بعد أن ناقش مسألة فقهية اعقب كلامه قائلاً : ﴿الحكم الذي تقدم قريب بحسب الذوق الفقهي وإن كان اثباته بحسب القواعد مشكلا﴾منتقى الأصول - تقرير بحث الروحاني ، للحكيم - ج 5 - ص 464


ومن المسائل الفقهية الأخرى التي اعتمد عليها الفقهاء وفقاً للذوق الفقهي ما ورد في تقرير بحث النائيني للكاظمي حيث ذكر ما هذا نصه : ﴿إلا أن الالتزام ببطلان صلاة من تحمل المشقة وقام في موضع الجلوس مشكل، يأباه الذوق الفقهى﴾كتاب الصلاة - تقرير بحث النائيني للكاظمي – ج2 – ص78


كما اعترض الشيخ محمد آل عيثان وهو من مجتهدي الإمامية على من قال بخصوصية عدم جواز تعمد البقاء على الجنابة وأنه من المبطلات للصوم بالصوم الواجب وأنه لا يسري الحكم على الصوم المندوب ونحوه فقال في سياق الأدلة الاعتراضية : ﴿وهو بعيد عن مذاق الفقاهة﴾ الرسالة الصومية - آية الله الشيخ محمد آل عيثان - ص27 .


بل إن الأمر قد يزيد على ما تقدم ويصرح الفقيه بالاستحسان كما قال الشيخ الجواهري في مسألة استعمال اواني الذهب والفضة أو اقتنائها حيث قال ما هذا نصه : ﴿لكن * ﴿ الأظهر المنع ﴾ * وفاقا للمشهور بين الأصحاب نقلا وتحصيلا ، بل لا أجد فيه خلافا إلا من مختلف الفاضل ، واستحسنه بعض متأخري المتأخرين ﴾ جواهر الكلام - الشيخ الجواهري - ج 6 - ص 342 - 344

وناقش السيد علي الطبطبائي مسألة كشف عورة الرجل في الصلاة وهو لا يعلم هل عليه الاعادة أو لا وقد ذكر أقوال عديدة إلى ان ذكر قول الشهيد قائلاً : ﴿وللشهيد قول آخر ، لا أعرف وجهه وإن استحسنه في المدارك بعد اختياره المختار ... ﴾ رياض المسائل - السيد علي الطباطبائي - ج 3 - ص 229 – 230 , وذكر السيد الطباطبائي كذلك في إحدى المسائل الفقهية بعد أن طرح أقوال مجموعة من الفقهاء فقال : ﴿ولأبن حمزة قول آخر في المسألة هو مع شذوذه غير واضح الدليل والحجة وإن كان الفاضل في المختلف استحسنه﴾ المصدر السابق - ج 9 - ص 342 .

إن الأمثلة على استحسان الفقهاء كثيرة جداً يمكن ان يراجعها المنصف في كتبهم الفقهية وعليه لا يمكن ان يقول أحدهم بأن فقهاء الإمامية لا يستخدمون الاستحسان إلا أن يكون قوله عن جهل أو عن إنحياز وفي كلتا الحالتين لا يعتد بقوله .

لقد ذكر العديد من فقهاء الإمامية ما وقع لأكثر الفقهاء من إتباع القياس والاستحسان في المسائل الفقهية فهذا الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين يذكر الشيخ الطوسي قائلاً : ﴿وأما الشيخ الطوسي ... ، ففي المبسوط والخلاف مجتهد صرف وأصولي بحت ، بل ربما يسلك مسلك العمل بالقياس والاستحسان في كثير من مسائلها ، كما لا يخفى على من ارخى عنان النظر في مجالهما ﴾ لؤلؤة البحرين - ص 293 - 298.
وقال السيد نعمة الله الجزائري : ﴿ ان أكثر الأصحاب قد تبعوا جماعة من مخالفينا من أهل الرأي والقياس ... واما مسائل الفروع فمدارها على طرح الدلائل النقلية والقول بما أدت إليه الاستحسانات العقلية وإذا عملوا بالدلائل النقلية يذكرون اولا الدلائل العقلية ثم يجعلون دليل النقل مؤيداً لها وعاضداً اياها فيكون المدار والأصل إنما هو العقل ﴾ الانوار النعمانية – السيد نعمة الله الجزائري – ج3 ص 129.
وقال الشيخ محمد جواد مغنية : ﴿ ان منهم –أي فقهاء الإمامية- من قال في مباحث الأصول بأن الوصف لا مفهوم له وأن الشهرة في الفتوى ليست بحجة وأن الإجماع إذا عرف سببه لا يعتمد عليه وأن الأصل محكوم بالدليل وأن الاستعبادات والاستحسانات لا تصلح دليلاً للأحكام الشرعية وأسسوا – أي البعض – هذا في الأصول ولما وصلوا إلى الفقه استبعدوا واستحسنوا وقالوا بمفهوم الوصف أو توقفوا واعتبروا الشهرة في الفتوى والإجماع مع العلم بالسبب أو أحتاطوا وعارضوا الدليل بالأصل ... ﴾ مع علماء النجف الاشرف – محمد جواد مغنية – ص128.

إن العيب كل العيب على من يسلك سبيل المخالفين ولا يعترف بما يفعله بل يقول ان المخالفين يتبعون الاستحسان ويعيرهم ويشنع عليهم بسبب إتباعهم للاستحسان وهو يكتم إتباعه لسبيل المخالفين بل أنه مطبق على القول بالاستحسان والقياس وقد أشكل الشيخ جعفر السبحاني على فقهاء العامة في مسألة إتباعهم للاستحسان قائلاً : ﴿ فما استحسنه الذوق الفقهي يجعله مناطاً للحكم، وما يستبعده يطرحه، فمثل هذا لا يكون دليلاً قطعياً بل ظنّياً وهذا شيء أطبق عليه مثبتو القياس﴾ الأنصاف في مسائل دام فيها الخلاف – جعفر السبحاني - ج2– ص 211

نقول : إن إتباع ما يستحسنه الذوق الفقهي بات من مصادر فقهاء الإمامية كذلك فإذا كان العيب على فقهاء العامة بانهم اتبعوا ما يستحسنه الذوق الفقهي فإن العيب ساري المفعول أيضاً على فقهاء الإمامية أيضاً لما بيناه في اعتمادهم على الذوق الفقهي كمصطلح بديل عن الاستحسان أو تصريحهم بإتباع الاستحسان تارة أخرى وكما مر بيانه فيما تقدم .



أقوى الدليلين :

إن الاستحسان عند فقهاء العامة له قسمين : الأول وهو الاستحسان بالعقل المجرد دون الاعتماد على أي دليل آخر والثاني هو استحسان أقوى الدليلين كما لو كان في المسألة مثلاً قياسين فيستحسن الفقيه أحد القياسين ويقويه على الآخر .

إن استحسان اقوى الدليلين من المصادر المعتبرة عند فقهاء الإمامية أيضاً حيث قال السيد محمد تقي الحكيم ما هذا نصه : ﴿الاستحسان وأقوى الدليلين : ونريد به ما أخذ في بعض التعاريف من العمل أو الأخذ بأقوى الدليلين ، وهذا التعريف بعمومه شامل لما كان فيه الدليلان لفظيين أو غير لفظيين ، أو أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي﴾ الأصول العامة للفقه المقارن - السيد محمد تقي الحكيم - ص 364

ثم فصل الكلام في ما كان الدليلان فيه لفظيين أو ما كانا فيه غير لفظيين أو ما كان أحدهما لفظيا والآخر غير لفظي .
إن الاختلاف بين الدليلين اللفظيين عند الأصوليين له مناشئ أهمها التزاحم والتعارض وقد ذكر الحكيم أهم مرجحات باب التزاحم وذكر في النقطة الخامسة تحديداً ما هذا نصه : ﴿تقديم ما كان أهم منهما على غيره ، ومقياس الأهمية احساس المجتهد بأن أحد الدليلين أهم في نظر الشارع من غيره ﴾ المصدر السابق - ص366
إن فقهاء الإمامية بدلوا كلمة " استحسان المجتهد " والتي قال بها فقهاء العامة إلى كلمة أخرى وهي " احساس المجتهد " ولا ندري ما هو الداعي من هذا التلون اللفظي إذ انه لا يؤثر بالمعنى إطلاقاً لأن كلاً من الاستحسان والاحساس يرجع معناه إلى إتباع العقل أو الهوى المجرد لأن في كلتا الحالتين – ان صح التفريق بينهما – لا يرجع الفقيه إلى دليل نصي بل يرجع إلى ما تقوله نفسه والرجوع إلى قول النفس هو مما اطبق عليه فقهاء العامة في قضية الاستحسان .
أما إذا كان الاختلاف في الأدلة غير اللفظية فإن الفقيه يستحسن الدليل الاقوى كما قال الحكيم : ﴿ فإن كان الدليلان في رتبتين كما هو الشأن في الاستصحاب وأصل البراءة قدم السابق رتبة واعتبر أقوى من لاحقه - ان صح هذا التعبير - وان كانا في رتبة واحدة وكان أحدهما أقوى من الآخر كما هو الشأن في التماس علل الأحكام في القياس إذا كانت مستنبطة قدم القياس ذو العلة الأقوى بناء على حجية أصل القياس ، وقد قصر تعريف الاستحسان في بعض الألسنة على تقديم قياس أقوى على قياس ﴾ الأصول العامة للفقه المقارن - السيد محمد تقي الحكيم - ص 371

إن مسألة أستحسان استصحاب على استصحاب آخر أو على أصل براءة أو قياس على قياس آخر هي من المسائل التي ذكرها فقهاء العامة في بحوثهم الاستحسانية وأطبقوا على الإتيان بهذه الأمثلة في باب استحسان أحد الدليلين وهذه المسألة من المسائل الكثيرة التي اخذها فقهاء الإمامية من العامة .

إن فقهاء الإمامية ربما غفلوا بأن مسألة تبديل الألفاظ بألفاظ أخرى لا تغير من المعنى شيء أبداً بل أن من الفقهاء من تعرض لهذه المسألة كالشيخ محمد مهدي شمس الدين حين قال : ﴿لا يعني أنه يوجد تباين كامل بين هذه المذاهب في هذه الأدوات الاستنباطية، ففي بعض الموارد يكون الاختلاف لفظياً، أي أن الاختلاف يكون في التسمية فقط، وبعض الموارد التي تعتبر قياساً عند أهل القياس لا يسميها فقهاء الإمامية قياساً، كذلك في باب الاستحسان مثلاً، ما يسمى باب التزاحم في الفقه الإمامي قسم كبير منه يمكن تصنيفه بسدّ ذريعة أو استحسان﴾الاجتهاد والحياة حوار على الورق – حوار واعداد محمد الحسيني- ص 23

وبعد ما تقدم من الكلام نختم الحديث بالقول بأن الاستحسان تسلل إلى ساحة الإمامية كما تسلل غيره من الأدوات المحظورة في الشريعة على لسان الصادقين ﴿عليهم السلام﴾ إلا إننا يجب ان ننتبه إلى مسألة تغيير الألفاظ وتبديل الأسماء حتى لا ننقاد إلى حبائل إبليس اللعين مهما تبدلت ألوانها أو تغيرت أسماءها فإنها تبقى من اختراع إبليس .



(( هذا الموضوع ومواضيع أخرى تجدونها في كتابنا سقيفة الغيبة ))






0 التعليقات:

إرسال تعليق