إبطال المستقلات العقلية عن طريق إقرار الفقهاء بالنسخ
إبطال المستقلات العقلية عن طريق إقرار الفقهاء بالنسخ المسألة (52) : إبطال آخر للمستقلات العقليّة عن طريق إقرارهم بالنسخ المرحوم عالم سبيط النيلي بيان الملازمة : لو حكم العقل مستقلاً وجاء الحكم الشرعي بمقتضاه ومطابقاً له فيلزم أن يحكم مجدداً بتبدل الحكم الشرعي بالنسخ ، لأنه إذا لم يحكم مجدداً لم يطابقه الحكم الشرعي بعد النسخ . ولمّا كان لا يقدر على الحكم المتجدّد لأنه مرتبط بالحسن والقبح العقلي وهي ثوابت . إذ لا يتحوّل الحسن عقلاً إلى قبيح أو العكس الاّ عند حصول معرفة احاطية بالتفاصيل بحيث يبقى العنوان كما هو وهو متعذر على العقل الجماعي والفردي سواء ، فيثبت بطلان حكمه الأوّل ومنه يثبت بطلان كلّ حكم عقليٌّ آخر باستقلال عن الشرع . فإذا قالوا : ليس هذا هو المقصود من الملازمة إنما المقصود أن العقل يحكم بحسن شيء وقبحه ولو لم يبلغه حكم الشارع فيه بما أودع الله فيه من ملكة على معرفة الحسن والقبيح والتمّييز بينهما ، والملازمة تتحدث عن ضرورة تطابق الحكمين حكم العقل هذا وحكم الشرع في الموضوع نفسه بغض النظر عن الأسبقية وعنصر الزمان . الجواب : لا يمكنهم إثبات الاستقلال في الحكم بغض النظر عن الأسبقية والزمان فهو ممتنع ولا يبقى إذا انتفت الأسبقية أيّ معنى للتلازم المذكور إذ أنّه سيُلغى فوراً لعدم وجود ثمرة منه على الإطلاق. ولذلك يعجز العقل عن تقرير ما هو حسن وقبيح في حكمين شرعيين بعد صدورها هما الناسخ والمنسوخ فضلاً عن التنبوء بهما قبل الصدور. فالأسبقية فكرة متضمنة في الملازمة العقليّة تضمناً ولا تنفك عنها مطلقاً. ألا تراهم يفترضون الظّن بالحكم وهو غير مبرئ للذمة فيأتي العقل لاحقاً ليحكم بحجّية الأخذ بهذا الظّن ؟ وبعد القطع بحجّية الظّن تبرأ الذمّة ؟ . والعملية كلّها متناقضة مع نفسها بالأسبقية لا سواها . إذ ليس المقصود بالأسبقية الاّ أسبقية الحكم نفسه حال البحث وليست أسبقية تاريخية لأن انتهاء الوحي تقدّم على علم الأصول تاريخياً. الملازمة تقول أني اجهل الحكم فاحكم بالعقل أولاً واحكم ثانياً وبالعقل أن هذا الحكم صحيح واحكم ثالثاً أن الحكم الشرعي سيكون مطابقاً لهذا الحكم حينما اعلم به نصاً لا اجتهاداً مستقلاً – فالنص موجود الآن بل سابق على الحكم ولكن لجهلي به يتأخر العلم به والعلم به هو مصدر الحكم الواقعي فهو مستقبلي في الزمان شئت أم أبيت . وإذن فالحكم العقليّ المستقل بالمعنى الأصولي ملازم للأسبقية وبغيرها لا معنى له ولا يستحق أصلاً ذكره فضلاً عن مناقشته . أما التناقض فهو مشين هنا لأن العقل هو الذي حكم أصلاً بأنّه ظن فهو عندهم كأنما يختفي ويظهر فجأة فحيث يختفي يظهر إشكال شرعي وحيث يظهر العقل يختفي الإشكال الشرعي ويلزم منه الاعتراف بان النظرة الأوّلى للشيء لم تكن نظرة بعقل وهو عجيب . وإنما غرابته لوجود الأسبقية لا سواها فكلّ من أراد سبق المولى بالحكم جاء كلامه متناقضاً مثيراً للسخرية مهما حاول أن يصوغه من صياغات . فإذا كان في العقل هذه القدرة فيفترض أن لا يظهر الإشكال الشرعي ولا تنبثق مشكلة يقوم بحلها العقل! . الظاهر أن المشكلة ظهرت حين فقدان المتلقي عقله وهذا ما يطابق القرآن تماماً لأن من أراد سبق المولى بالحكم فليس من الذين يعقلون قطعاً فسبحان ربك كيف أتقن صنع العالم وكيف قهر الكائنات قهراً على عبوديته . فكلّ من أراد أن يعصيه لابد له من زوال حجته قبل العصيان وخلاله وبعده فهل تعلم أحداً سواه بهذه الصفة ؟ (( رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً ))-65 /19. لا محيص لهم من الاعتراف أن حكم الله تعالى مستقل كذاته فحكمه هو الحكم المستقل وليس حكم الإنسان . إذن سيصبح الإنسان إلها آخر ، ولذلك أقرّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بهذا الإقرار في أوراده وادعيته والتي يفترض أن تكون جزءاً من الخطاب الشرعي لأنها من كلام المعصوم (عليه السلام). فمن أيّ خطبة ودعاء تريد أن نستدل على ذلك ؟ إنها موجودة في كلّ أقواله تقريباً . انظر دعاءه يوم السابع عشر من كلّ شهر فإذا راجعت هذا الدعاء وجدته (عليه السلام) يقر ويعترف بالوحدانية قبل وجوده وبعده ومادامت الروح تسري في بدنه وبعد خروجها وقبل دخوله قبره وبعد دخوله قبره ثم يذكر الحواس حاسة فحاسة ويؤكد الوحدانية قبل توارد المعلومات عن طريق الحواس وبعد تواردها وحال عدم تواردها! فماذا يريد أن يقول في كلّ ذلك ؟ يريد أن يقول بالطبع أنّه : لا حكم لي مطلقاً بل أنا محكوم لأن حكمك يا ربّ قبل حكمي وبعد حكمي فإذا حكمت أشركت سواء طابق حكمك أم لم يطابقه وأنا اعترف بأنه لا حكم لي الا ما حكمت . فالاستدلال واضح به من حيث أن الحكم الإلهي غير مرتبط بالإنسان لا كفرد ولا كنوع – سوى أن الإنسان موضوع لهذا الحكم فهو محكوم لا حاكم . ومفاده الوحيد أن حكمه تعالى هو المستقل كذاته تعالى فهو ليس علـّة لمعلول كما قالوا في الفلسفة إذ العلة لازمة ومحكومة بالمعلول ، وتقدّمه كونه علـّة أولى لا ينفع بل هو حي قيوم منفرد مع تصوّر فناء العوالم كلّها وهو واحد لا وجود حقيقي لسواه ولذلك فلا موضوع أصلاً لحكم حاكم سواه . لذلك تقدم في دعاءه (عليه السلام) على هذا الإقرار سردٌ بذكر كلّ الاشياء الممكنة فأحال وجودها وقيامها به على طول صفحتين كاملتين فمنها مثلاً: لا اله الا أنت عالم كلّ خفية . لا اله الا أنت عالم كلّ سريرة . لا اله الا أنت شاهد كلّ نجوى . لا اله الا أنت كاشف كلّ بلوى . لا اله الا أنت كلّ شيء خاضع لك . لا اله الا أنت كلّ شيء داخر إليك. لا اله الا أنت كلّ شيء مشفق منك . لا اله الاّ أنت كلّ شيء ضارع منك . لا اله الا أنت كلّ شيء راغب اليك .لا اله الا أنت كلّ شيء راهب منك . لا اله الا أنت كلّ شيء قائم بك …الخ. فكيف يكون كلّ شيء راهب وراغب وضارع إليه ؟ أليس الكفار والمشركين قد عصوه ولم يضرعوا إليه وهم من الأشياء ؟ . أم تحسب أن الإمام علي (عليه السلام) لا يدري ذلك ؟ كلا. فإن الكائن الإنساني يخيل إليه أنّه يحكم في الأشياء وليس هو بحاكم حقيقي . والإمام (عليه السلام) إنما يتحدّث عن حقيقة العلاقات مع الله لا ظاهرها . فهو يدرك جيداً وفوق ما ندركه بما لا يقاس أن هؤلاء العصاة خاضعين مرعوبين ضارعين من حيث لا يعلمون! . فهل رأيت خضوع العقل وذلّته حينما أراد الحكم فلم يكن له طريق لذلك سوى المغالطة فبدأ بإلغاء وجوده وإفناء ذاته للتوصل إلى المغالطة في الحكم ؟ . وهل هناك حاكم خضعت له الأعناق إلى هذا الحد سوى الله بحيث أن العاصي لم يعصه حتى يمهد بالخضوع والذلّة والإقرار وإن كان لا يشعر بذلك ؟ في وسط الدعاء يبدأ الإمام بالتسبيح في فقرات مأخوذة من النص القرآني . ثم يبدأ التشهد بالوحدانية في صفحتين ونصف وهو يريد التوصل إلى أنّه يشهد له بالوحدانية وعدم مشاركة أيّ مخلوق له في أي شيء حال فناءه وعدم وجوده أيضاً الاّ في كونه فكرة أو اسم موجود بالقوة عند الله بل يؤكد على فكرة ( كلّ حال أبداً ) لتكون الشهادة متحققة فيما لا يمكنه أن يتصوره من حالات لوجوده أو عدم وجوده! يقول الإمام (عليه السلام) في بعضها: ((اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ما دامت الجبال راسية و بعد زوالها . اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ما دامت الروح في جسدي و بعد خروجها)) ثم يقول : ((اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ما سمعت الإذنان وما لم تسمعا وعلى كلّ حال أبداً. اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ما أبصرت العينان وما لم تبصرا وعلى كلّ حال أبداً . اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ما تحرك اللسان وما لم يتحرك وعلى كلّ حال أبداً. اشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له قبل دخولي قبري وبعد دخولي وقبري وعلى كلّ حال أبداً))(1) و هكذا يستمر الإمام (عليه السلام) في سرد وقائع التغير المحتمّلة لوجوده و حواسه مع ثبات إقراره بنفس الحكم الأوّل وهو الشهادة بان الله لا اله الا هو لا شريك له ولا يكتفي بذلك حتى يعمّم الحكم على حالات التغير فيقول وعلى كلّ حال أبداً. إذن فهو يتخلى عن حكمه الخاص . وهو بهذا التخلي إنما حاز على القوة والمعجزة . لقد أطاع الرسول (عليه السلام) إلى حد الاستغراب من هذه الطاعة من قبل الصحابة فقد وصفوه بأنه أطوع له من العبد لسيده ومن الخاتم في إصبع الرجل . ولذلك كانت أفعاله وأحكامه هي أشياء مفاجئة للآخرين لغرابتها لأنه لم يكن ليدخل هواه في حكم الله ، هذا أن كان له هوى مثل الآخرين والاّ فيبدو أن هواه اصبح هو ذاته حكم الله . وألا فكيف يصفه النبي (صلى الله عليه واله و سلم ) بهذا الوصف الغريب وهو أنه لا يدور مع الحقّ بل الحقّ هو الذي يدور معه وذلك في قوله (صلى الله عليه واله و سلم ): (( علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار )) كلّ ما يُرجى وأقصى ما يُرجى من الخلق أن يتبعوا الحقّ . أما علي (عليه السلام) فالحقّ هو الذي يلاحقه ويفتش عنه ليدور معه ! ولا يحدث ذلك لكائنٍ ما لم يكن قد تخلص بشكلّ تام من أيّة حالة للتداخل بين مراده الذاتي ومراد الله ، بل تخلص من نفس مراده الذاتي وألغاه إلغاءاً كاملاً حينما قال مخاطباً الجليل تعالى : (( .. الهي أنت كما أريدفاجعلني كما تريد)) وهكذا تخلى عن إرادته كاملة بهذه العبارة . هذا البحث القيم مقتبس من كتاب البحث الاصولي (1) الصحيفة العلوية /358. | ||
الموضوع الأصلي: إبطال المستقلات العقلية عن طريق إقرار الفقهاء بالنسخ
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق