نقض احتجاج الاصوليين بالمستحدثات كحجة على الاجتهاد والتقليد
نقض احتجاج الاصوليين بالمستحدثات كحجة على الاجتهاد والتقليد المسألة (53):نقض احتجاجهم بمستحدثات المسائل : الجواب : إن هذا صحيح جداً فلا يمكن البتّ بتلك المسائل وحكمها الاّ بالملازمة . ولكن المؤسف أن الناتج منها ليس الحكم الشرعي قطعاً ، إنما هو حكم العقل وإن انكشف يوم القيامة مطابقة الحكم الشرعي له . ونقول بالقطع ولو مع المطابقة لوجود نص شرعي يحكم في هذا ولذلك لا يمكن إلغاءه لأنهم لم يقولوا بإمكانية إلغاء الحكم الشرعي بالحكم العقليّ . وهذا النص قد ورد بألفاظ كثيرة جداً وصوراً متعددة أفادت كلّها عدم إبراء الذمّة حين الحكم على المسألة بالرأي وإن طابق الحكم الشرعي لأن المناط هو النية لا المطابقة . وهذا معلوم لأنه من أوّليات الأحكام . فلو فعل المكلّف أيّ فعل واجب لأيّ سبب غير كونه واجباً يبقى ذلك الواجب معلقاً في عنقه ، وكذلك لو امتنع عن الحرام أو فعل أفعال البر . وهذا كلّه له أصل هو الحكم نفسه فلو حكم فيها برأيه فهذا هو حكمه ويكون مخطئاً ولو طابق الحكم الشرعي . وإنما الحكم يتنزل فلا تحسب المكلّف لا يحكم وأن الحكم خاص بالفقيه وأن المقلد له لا يحكم ، بل هو الآخر يحكم في التنفيذ وعدمه وصورته ، ومحال حصول شيء من الأفعال قبل إرادتها على وجه ما وهذه الإرادة على وجهٍ معيّنٍ هي الحكم . فإذا كان حكمه أن يريد عين ما أراده الشارع احتاج إلى معرفة فعلية لحكم الشارع لا مجرّد الظنّ . وإذا كان حكمه أن يريد حكماً وحسب لم يحتج إلى غير إرادته تلك . فالنية ذاتها أول حكم يبدأ به عمل المكلّف ، فإذا فسد أول حكم فسد العمل كلّه ولو كانت صورته مطابقة لصورة مراد الشرع . وإذا فسد أول حكم لم يهتمّ المكلّف من أين يأخذ الحكم ، لأنه يحسب أن الله لا بد له من قبوله ما دامت صورته مطابقة لمراده وهذا هو حكم آخر فاسد يُفسد العمل حتى لو لم يفسد الحكم الأوّل. وكلّ فعل للمكلّف هو بين حكمين محتملين عند المكلّف سوى حكم الشرع هو حرٌّ فيهما : حكمة بالسبق وحكمه بالتعقيب. فإذا لم يسبق ولم يعقّب بقي حكم الشرع منفرداً فيقبل منه ولو كانت صورته مشوهة جداً عن المراد الشرعي . وأسوا الاحتمالات هو أن يقبل منه الجزء الصحيح ويضاعف إلى عشرة أو سبعين أو سبعمائة والى ما شاء الله تعالى من الأضعاف الكثيرة . أما إذا أشرك بحكم الشرع حكمه الخاص سبقاً أو تعقيباً لم يكن العمل خالصاً ولا حكم الله منفرداً فيحبط العمل ولو طابق الواقع . ولذلك ارتبط الشرك في الحكم بإحباط العمل وهو خاص بمن آمن بالقول واللسان وأشرك في العمل . قال تعالى : (( ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون )) 88 /6. والسياق في الذين اصطفاهم الله تعالى فلا يشركون شرك الكفر المعلوم باتخاذ أصنام وإنما لو أشركوا في الطاعة كما هو في تفسير الأئمة (عليه السلام) . قال تعالى : (( و لقد أوحي إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين ))-65/39 . فقد ظن الناس أنّه محتمل أن يشرك فيعبد غير الله معه فقال الباقر (عليه السلام) : (( ليس حيث تذهبون إن الله تعالى أوحى إلى نبيه (صلى الله عليه واله و سلم ) أن يقيم علياً علماً للناس فاندس إليه معاذ بن جبل فقال أشرك معه في ولايته فلانا و فلانا حتى يسكن الناس ، وكان قد ماجوا فشكا رسول الله إلى جبرائيل (عليه السلام) فقال : أن الناس يكذبونني ولا يقبلون مني فأنزل الله تعالى : ((يا أيّها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وأن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)) وأنزل (( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ))(1) أقول : لو جعل معه فلانا وفلانا حسب المقترح الذي تقدم به معاذ بن جبل نيابة عن الناس لما ألغى الحكم الشرعي وإنما كان سيشرك معه حكماً آخر وهو ولاية فلان . فهذا معنى قولنا أن الحكم الشرعي يجب أن يكون منفرداً . وقد محّص الله الناس بهذا الأمر الشدّيد القسوة وهو ولاية علي (عليه السلام) فهي أساس لإخراج ما في نفوسهم من شرك خفي . فالولاية ليست في جوهرها سوى انفراد الحكم الشرعي ، ولذلك يصح قولك أن إبليس كفر بالولاية – لأنها في الواقع هي الاختبار المتجدّد في تاريخ الكون فجعل لها ظهوراً واقعياً في آخر أدواره في شخص الحجّة (عليه السلام) . كلّ انحراف يأتي بسبب الحكم العقليّ المستقل لا يعني في النهاية سوى إنكار وجود الحجّة . بيان ذلك : إن عندي عقل ونص ألهي . فكلّما افترضت أن عقليّ قادر على كشف النص الإلهي كلّما حكمت للعقل بالحجّة . إذ لو كانت لدي هذه القدرة الكاملة في العقل لكشف النص الإلهي لكان ذلك معناه أني بلغت القمة من الإيمان والمعرفة وأن الله قد اصطفاني من غير أن اشعر . عليّ إذن أن اعترف أن هناك من هو اكثر مني معرفة بالنص الإلهي وواجبي هو الاقتداء به . وإن الحسد والأنانية هي منشأ هذا الشعور وإنما كفر إبليس بسبب الحسد لا غير . واخطأ آدم أيضاً بسبب نسيان دور الحسد . الحسد يدفع إلى الحكم المستقل لا غير وألاّ فإنه لا يتحقق في الخارج بأيّة صورة . وإذا لم اعترف بفضل الفاضل على المفضول فلن اعرف الله . ذلك أن إقراري بصفات الله لا يتمّ الا بإقراري بهذه الأسبقيات ، أنّه نتيجة للتواضع وليس التواضع نتيجة للإيمان ! . إن المعادلة معكوسة في الأذهان ومقلوبة تماماً عند الناس بما في ذلك العلماء . فالإيمان هو نتيجة للتواضع ، فلا مكان للمتكبّر في الوجود لأن المتكبر واحد لا يتعدد وهو الله . نعم . إن عندي قدرة كامنة في العقل لكشف النص الإلهي ، ولكن ليست كاملة الآن ويتوجب عليّ أن اعترف بفضل الفاضل وأقر بجهلي بما اجهل من أجل أن أتعرّف على المزيد من الاشياء لأني إذا لم أقر بما اجهل فلن اعلم كما هو بيِّن . لذلك يقول الإمام علي (عليه السلام) أن ولايته أخذت في الميثاق الأوّل على جميع الكائنات . ذلك لأن النبي (صلى الله عليه واله و سلم) قد أخذ الله له الميثاق على جميع الرسل والأمم السابقة . ونقطة الابتلاء لكشف التكبر هي في ولاية نائبه علي (عليه السلام) . قال تعالى : (( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب و حكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به و لتنصرنه قال أأقررتمّ واخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين )) 81 / آل عمران . إذا عرفت ذلك فيمكن الآن الكشف عن التناقض المرعب بين الاحتجاج بمستحدثات المسائل وبين أصل الدِّين . فمن أين جاء الإشكال بمستحدثات المسائل ؟ . لقد جاء من غياب نص صريح فيها . ولا جواب غير ذلك . لكن أليس الله تعالى يعلم بحدوث هذه المسائل ؟ الجواب : أكيد نعم . فهل يعقل أنّه لم يوضح فيها حكمه الشرعي؟ هذا محال . إذن فكيف حدث أن اختفى النص الصريح في هذه المسائل ؟ إنّه يقول أنّه اكمل الدِّين وأتمّ النعمة وفصّل لكم في الكتاب كلّ ما تحتاجون إليه إلى قيام الساعة . أم أن تلكم الآيات غائبة عن الفكر الأصولي ؟ فلنلاحظ الآيات : 1. (( أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي انزل الكتاب إليكم مفصّلاً والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربك بالحقّ )) 114/6 لاحظ ارتباط الحكم بالتفصيل – لأن هذا التفصيل هو تفصيل أحكام إذ قلنا أنّه لا يوجد خطاب لا يتعلق بحكم كما زعموا فالخطاب كلّه له علاقة بأفعال المكلّفين خلافاً للتعريف الأصولي . ثم لاحظ ارتباطه بالذين آتيناهم الكتاب . لأنك ستقول حتماً : نعم ولكن من أين أعلم هذا التفصيل ؟ . فالآن أقررت بالجهل بينما أنت تقول قبل ذلك يمكنني أن أعلم من خلال الحكم العقليّ ! فإذا لم تعلم فما الذي جعلك تعلم بعد هذا الإقرار؟ ذلك انك أقررت الآن بالجهل ومعك عقلك ولست بلا عقل ! فما هذه المخادعة مرة تقول لا اعلم و مرة تقول اعلم ! أم تحسب أن العلم بالظّن هو علم فعلي ؟ أنت إذن تشكّ بالكتاب على قدر جهلك به وهذا طبيعي . فإذا قلت فأين اذهب ؟ فيقال لك ((الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزل من ربك بالحقّ))- ولا يمكن أن يعلموا أنّه منزّل بالحقّ من غير أن يعلموا نفس الحقّ . إذن فهم يعلمون هذا التفصيل تحديداً . لقد فرقنا في كتاب ( النظام القرآني ) بين ( الذين أوتوا الكتاب ) وبين ( الذين آتيناهم الكتاب ) . و علمنا وجه المغالطة في ادعاء ترادفهما فالذين آتيناهم الكتاب هم الأصفياء وليسوا ( أهل الكتاب ) كما زعموا . وهؤلاء هم سلسلة من الأصفياء مستمرة لا تنقطع ولا بد من فعل ماضي للإيتاء لأنه لو كان الإيتاء لا يتمّ الا بعد وصولهم مرحلة التمّكن لما كانوا حجّة على الخلق بل لابد أن يكون الاصطفاء سابقاً على التجربة في الحياة . وعلى ذلك جرت سنن الرسل (عليه السلام) . فالجميع اصطفاهم قبل وجودهم الفعلي بحيث أنّه آتاهم الكتاب وهم حال الطفولة كما ذكر ذلك عيسى (عليه السلام) حيث قال في المهد : (( واتاني الكتاب و جعلني نبياً )) وقال تعالى عن يحيى : (( وآتيناه الحكم صبيا)) . ولا يصلح لحمل الكتاب شخص لازال في دور التعقّل . لابد من عاقل مكتمل العقل ولا يحدث ذلك الا باصطفاءٍ مسبقٍ. إذن (( الذين آتيناهم الكتاب)) ليسوا اليهود والنصارى . بل هم (( الذين آتيناهم الكتاب)) فلماذا نغير المعنى الواضح ؟ وهل تحتاج تلك العبارة إلى بديل وهل هي غامضة فعلاً أم أن هناك قصداً في صرف المعنى عنهم و تحويل المراد كلّه من أشخاص ممدوحين في كلّ القرآن إلى مذمومين بالادعاء أنّهم ( أهل الكتاب ) وهم أيضاً أنفسهم ((الذين أوتوا الكتاب)) ؟ . لاحظ السياق الكامل للآية وارتباطها بالكلمات التامات . إذن جاءت المشكلة في المسائل التي ليس فيها نص من عدم فهمك للنص ! لأن النص يقول أنّه مفصّل وأن هناك من يعلمه وقد تركت هذا الذي يعلمه وأوكلت الأمر إلى نفسك والآن تريد أن تحكم في التفاصيل ! فما هذا التناقض الفاضح ؟ ستقول وماذا افعل فيما ليس عندي فيه علم على فرض وجود النص ووجود من يعلمه فإني لا أصل إليه . لكني أسألك أيّها الأصولي البارع : أأنت منشغل حقاً في تدبر النص أم أنت منشغل في صياغة أحكامك العقليّة وجدالك مع أمثالك في تلكم الصياغات ؟ . الواقع أن لك دين آخر ونص آخر علاقته بهذا النص و بهذا الدِّين علاقة بديل مع بديله . فالآن أنت تريد أن تحل محل الذين آتيناهم الكتاب وفي نفس الوقت أنت تقرّ بأنك لا تعلم الكتاب وفي نفس الوقت أيضاً تقول أنك قادر على الحكم في كلّ التفاصيل من خلال التلازم بين العقل والشرع في الحكم وتبرئ ذمتي من العمل بهذا التلازم إذا تابعتك ! أنصحك نصيحة خالصة لوجه الله تعالى : اختر واحدة من تلك القضايا المتناقضة فإنها لا تجتمع . ثم انشغل بإبراء ذمتك فإني اشك في قدرتك على إبراء ذمتي . نعم إذا اتقيت ومشيت على الماء وردّت الشمس إليك واستجابت لك الطبيعة سأعلم انك من أولياء الله وسوف تجبرني على أن أتابعك رغم انفي . 2. (( و نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين)) -89/16. أنت تقول أن مستحدثات المسائل ( لم يتطرق إليها الشارع من قبل ولم يرد فيها نص ) . والآية تقول عكس ما زعمت أن الكتاب تبيان لكلّ شيء . فأنت إذن تكذب عليّ في هذا ، فهل تركها الشارع عفواً أم إعفاء أم أوكلها لك لتحكم فيها ؟ أم ستقول مرة أخرى لا أعلم هذا التبيان ! وأنا لا أريد منك سوى هذا الإقرار بشرط أن تبقى عليه ولا تقول لي بعد ذلك سأعلمه من التلازم العقليّ . ذلك أني معاقب كنوع إنساني عقوبة إلهية . فقد منع الله عني معرفة التفاصيل لأني منعت الذين يعلمون الكتاب من التعليم . فأنا إذن معاقب على عملي . ولا ترتفع عقوبتي كنوع إنساني الا بالرجوع اليه والإقرار بجهلي والتواضع لمن أعطاه الله علم الكتاب . وأنت الآن تريد أن تخدعني : تقول أماني أعطيك تفاصيل الحكم و تأمرني بمتابعتك . إذن ستزداد فترة عقوبتي كنوع إنساني ولن أرى الفرج ما دمت أرى وجهك . لأن عقوبتي أصلاً جاءت من اتباعي غير الحجّة! والآن أنت تبرر لي عملي و تزيّنه لي . أن مثلك ((مثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك ))-16/59. أنا متأكد من انك ستبرأ مني حينما اكتشف أن براءة الذمّة التي قدمتها لي كانت مزورة . فإنما ستقول لله تعالى : ((ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد ))-27/50 وسوف تحوّل شكواي ضدك إلى شكوى ضدي . ذلك أني عبدتك طوال حياتي وسوف تكفر بعبادتي إياك وتعاديني : ((سيكفرون بعبادتهم و يكونون عليهم ضداً)) -82 /19 3. (( ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كلّ شيء و هدى و رحمة لقوم يؤمنون )).111/12. إذن فهو تفصيل كلّ شيء فلا بد من معرفة السبب في عدم حصول المكلّف على هذا التفصيل حيث يزعم أن بعض المسائل لم يرد فيها نص . الصحيح أن النص ورد فيها والمكلّف يريد أن يعرف هذه التفاصيل بنفسه وهو ممتنع عليه ولذلك لا يحصل عليها . فهل يكون البديل هو أن يحصل عليها بملازمة عقليّة يبتدعها ؟ . إن هذا يشبه عمل قوم استولوا على خزائن ملك فيها جواهر وعليها أقفال لا تفتح إلاّ بصوت الملك نفسه فقالوا : هذه الجواهر لكم ولا بد من الحصول عليها فاجتمع الناس حولهم فقالوا لهم : إلا تتـنحّون جانباً ليرجع الملك إلى خزائنه فيعطينا ! فتشاوروا فقالوا : هؤلاء سيزيحونا عن الخزائن إن نحن لم نعطهم منها فتعالوا نخرج لهم من هذا الحصى و نقول تلك هي الجواهر التي في الخزائن فاخرجوا لهم الحصى . فقالوا وهم يعلمون كيف يفرقون بين الحصى والجواهر : وكيف نعلم أنها جواهر الملك ؟ . فقالوا : ها نحن نخرجها من الخزائن فهل تظنون أن الملك وضع الحصى في الخزائن أم الجواهر ؟ قالوا : بل الجواهر . قالوا : فهذا هو المنطق الصحيح وإذن فتلك هي الجواهر . قال راوي الحكاية : ولكن الحقيقة هي أن الملك وضع قطعة جواهر واحدة فقط تحت كلّ عشرة أطنان من الحصى فلم يخرجوا تلك الواحدة . فقيل للراوي : لماذا فعل ذلك ؟ . قال : ليفتنهم . قيل له : فهذا معناه أن أكثر الخزائن حصى لا جواهر فكيف فات الناس ذلك حيث قالوا لابد أن تكون جواهر لأن العاقل لا يخزن الحصى ؟ فضحك الراوي وقال : ها هنا المشكلة فإنه وبقدرة القادر جعل الخزائن جواهراً كلّما كان الملك الموكلّ بها حاضراً فإذا أخرجوه انقلبت الجواهر إلى حصى الا واحدة . قالوا : سبحان الله فلماذا أبقى تلك الواحدة ؟ قال الراوي : ليحتج بها على المعتدين على الملك و خزائنه لأنها كلّما خرجت عند تقليب الحصى أخفوها فيه من أجل أن لا يراها الناس فيعرفون الفرق بين الجواهر والحصى والذي أنكره المعتدون داخل الخزائن مع إقرارهم بالفرق خارج الخزائن . فقيل للراوي : عجباً لماذا لم يعلِّم الملك هؤلاء المساكين الفرق بين الجواهر والحصى ؟ فقال الراوي : اعجب منه قولكم هذا لأن هذا الفرق ظاهر لا يحتاج إلى تعليم . وحجته ثابتة عليهم كما هي ثابتة على الذين استولوا على الخزائن وغصبوها من الملك . قيل للراوي : فمن أيّ وجه أخذوا إذن ؟ قال الراوي : من المنطق الخاص بهم : الملك لا يخزن الا الجواهر ومن قال غيره كفر ، والغاصبون لا يخرجون شيئا الاّ من الخزائن فلابد أن تكون جواهر حتى لو كانت أمام الحس والعيان حصى لا غير ! فهذا منطقهم وهو خلاف الواقع . فقيل للراوي : فما خلاص هؤلاء المساكين ؟ . قال الراوي : خلاصهم إذا رجع الملك بعسكر وقوة وقال للناس : لا تخافوا يا أولادي ولا ترتعبوا ولكن قولوا ما ترون واحكموا بالحقّ : هذا الذي ترونه جواهر أم حصى ؟ فيقولون : يا مولانا والله أنّا نعلم انك لا تغدر ولا تكذب وسنقول ولا نخاف أننا نراه حصى وليس من الجواهر في شيء الاّ أن يكون هناك أمرٌ خفي علينا . فيقول الملك : كلا يا أولادي لم يخف عليكم شيء أنّه حصى بالفعل لأن الخزائن لا تفتح عن جواهر الا بصوتي وبصوت غيري يكون كلّ ما فيها حصى ! فقيل للراوي : فمتى يرجع الملك بهذا العسكر ؟ فضحك الراوي حتى كاد يسقط من الضحك . فقيل له : لماذا تضحك أفي سؤالنا ما يُضحك ؟ قال الراوي : نعم أنّه أكثر شيء أضحكني بعدما أبكاني ، إذ من أين للملك عسكر وقوة خارج هؤلاء الناس فإن قوته وعسكره منهم ؟ ولن يرجع قط ما لم يكن فيهم جماعة يَصدِقون القول فيصرّحون أنّه حصى لا جواهر! فيكونون أوّل قوته ومدده . فقيل للراوي: على هذا يلزم أن يوجد دوماً من يذكرهم أنّه حصى لا جواهر إذ يظهر أنّه لا يرجع إليهم حتى يكونوا صادقين . فقال الراوي : صحيح وكيف يرجع إليهم ليعطيهم الجواهر وهم راضين بالحصى و يقولون هو جواهر؟ فهو يقول لهم منادياً من بعيد : ما دمتمّ يا أولادي تكذبون وتسمّون الحصى جواهر فلن آتي. أما الذي يذكِّرهم بذلك فهو موجود دوماً وهو عدو الملك وهم أكثر من ثلثي الناس حيث ينكرون أن تكون تلك جواهر وإنما هي حصى . لكنهم يقولون أيضاً هذا معناه لا ملك ولا خزائن وإنما هي خدعة!! فقيل للراوي : على هذا فإن الناس في محنة إذ لو صدق واحد فيهم فقال الحقّ قالوا له أنت من أعداء الملك لأنك تقول مثل قولهم . فهل ترى لهم من خلاص؟ قال : نعم صحيح . أما الخلاص فهو في وعد الملك حيث ذكروا أنّه قال أما فتنة بينهم يصدق فيها جماعة ليرجع إليهم الملك ويكونون مدداً له وأما انفجار يجعل الحصى يتطاير ويرجم الناس رجماً فيجعلهم مثل جراد منتشر ، حتى يقرّوا قبل موتهم أنّه حصى لا جواهر. أقول : قد ذكرت هذه القصة عرضاً لتشبيه ما يفعله الناس في علاقتهم بالعلماء من جهة وبالدِّين من جهة أخرى وكذلك في علاقتهم بالله وبالذي جعله الله قيماً على تلك الخزائن المعرفية لكتبه المنزّلة . إن الذين يستولون على الملك دوماً بخلاء وأنانيون . ولما كانوا يزوّرون الملك ، حيث ينحّون الحقّيقي جانباً ويجعلون أنفسهم مكانه فلابد من تزوير المُلك نفسه كقصاص عادل بالمقابل ، لأن الخزائن لو وقعت في أيديهم فلن يؤتوا الناس منها نقيراً واحداً ولكنه حصى بالفعل. قال تعالى : (( قل لو أنتم تمّلكون خزائن رحمة ربي إذن لأمسكتم خشية الإنفاق و كان الإنسان قتوراً )) الحمد لله أنّهم يسلبون الملك ولا يشعرون أنّه ينقلب فعلاً إلى شيء آخر يسلبهم كلّ قدراتهم فهم يريدون خداع الله وخداع الناس فكانت النتيجة أنّهم خدعوا أنفسهم . قال تعالى : (( أم لهم نصيب من الملك فأذن لا يؤتون الناس نقيراً))53/4. إذن هذا احتمالان لابد من أحدهما إما عذاب فتنة للساعة وإما عذاب الساعة ذاتها . قال تعالى : ((قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكاناً واضعف جنداً ))74-75/19 وقال تعالى : (( قل أر أيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون )) 40 /6 وقال تعالى : (( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء و تنسون ما تشركون )) 41/6. لاحظ الشرط ( إن شاء ) فإنهم إذا دعوا لا يوجب ذلك عليه أن يكشف ما يدعون إليه بالرغم من تأكيده في مواضع أخرى على الإجابة: ذلك لأن الدعاء في هذه الحالة – حالة مجيء العذاب أو الساعة مرتبط بصحّة الدعاء وخلوص النية . وفيه تأكيد آخر على عدم إمكانية الحكم بسريان نفس الحكم إذ تبقى المشيئة لله وحده . إذن فالمسائل التي لم يكن فيها للمكلّف علم بالحكم ليس مرجعها إلى غياب الحكم في النص بل إلى سوء فعل المكلّف نفسه حيث عصى الله تعالى حينما عصى الذين أوكلهم بمعرفة النص وتصدى هو لهذه الأمانة وتحملها من غير أن يحملها له الشرع ، فلن يحصل على ناتج ما لم يصحّح خطأه الأوّل هذا . فكيف يحتج بهذا الجهل لتأكيد إمكانية العلم بها بعد إقراره بالجهل ؟ فالتناقض هنا مركب إذ هو يناقض نفسه مرتين مرة عندما يريد معرفة الحكم وهو يؤكد غيابه وعدم تطرّق الشارع إليه ! ومرة مع الشرع حينما يتصدى لمعرفة ما لم يكلّفه الشارع بمعرفته ! ففي أيّ حالة يكون الشرع أعذر له ؟ في حالة أن يستمر في مغالطته الأولى التي انبثق عنها الإشكال أم في حالة التوقّف عنها والصبر وانتظار الفرج مع شعوره بضرورة ظهور من يعلمه من حجج الله؟ وهذه المناقشة هي مع الذين يؤمنون باستمرار وجود الحجّة (عليه السلام) . أما المنكر لوجود الحجّة (عليه السلام) أصلاً فلا مناقشة معه ، إذ لا توجد معه بعد هذا الإنكار أيّة قضية مشتركة في الدِّين . وبيان ذلك : إن الأوّل متناقض فيمكن المناقشة معه على أساس واحدة من مسلماته وهي وجود الحجّة . أما الثاني فإنه يدعي أن المعجز من الخطاب لم ينزل عليه ! بل انزل إليه فهو يوجه النص بحسب طريقته وهو شيء لم يدعيه أحد من الرسل (عليه السلام) وحاشاهم لأنهم يلتزمون بالمعنى القصدي للنص ولا حكم لهم فيه بل هو ذاته حكم الله عليهم . المشكلة اللغوية إذن مفتعلة فلا وجود لهذه المشكلة . والغاية الأساسية من افتعالها هو النص الإلهي ليكون نصاً قادراً على الاستجابة لمطالب الجماعات بعد فشل المطالب المقدمة للرسول (صلى الله عليهواله وسلم) في أن يأتي بقرآنٍ غير هذا أو يبدله ! . فإذا لم يستجب الله لهذا المطلب ويتحول إلى مأمور يعمل بأوامرهم فماذا يفعلون؟ من الضروري بالطبع أن يكون نفس هذا القرآن مرناً بما يكفي لتنفيذ تلك المطالب بحيث يمكن تشكيل ألف قرآن منه من خلال إبهامية اللغة وعدم صلاحيتها للتعبير عن الاشياء بدقة وبالتالي إمكانية تعددية التأويل . وتلك هي النظرية اللغوية السائدة والتي أحكمت كلّ الفئات ترسيخها كلّ بطريقته الخاصة . إذن فاندلاع الحرب التأويلية للنص هي الباب الأوّل لتعددية المذاهب والمشارب. اندلعت هذه الحرب فور موت النبي (صلى الله عليه واله و سلم) بعد إن كانت مقتصرة على مناوشات لا تتطور إلى حرب فعلية بسبب وجوده بينهم . وكان الأيسر عليهم للبدء بصفحة التأويل أن يحدث تغيير في نفس النص فإنه أسرع واعظم أثرا في تنفيذ هذا المشروع . و لقد تنبأ الرسول (صلى الله عليه واله و سلم) باندلاع حرب التأويل فور رحيله وأن الحجّة الذي هو حجّة سابقة على أيّ حكم عقليٌّ سيكون مضطراً للقتال على التأويل كما قاتل هو على التنزيل . وورد ذلك في قوله لعلي (عليه السلام) : ((انك تقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله )) وفي نص آخر: ((فيكم من يقاتل على تأويله كما قاتلت على تنزيله)) فقال أبو بكر : أنا هو ؟ قال : لا . فقال عمر أنا هو ؟ فقال : لا ولكنه خاصف النعل يعني عليّاً . فدخل علي (عليه السلام) و بيده نعل رسول الله يخصفها ، قال : فبشرناه فلم يرفع بها رأسه كأنه سمعه . ( خصف النعال = أصلحه بالخصف ) (2) من هو الذي يفوز إذن بمعرفة حقيقة النص وانطباقه على الاشياء ؟ أهو الذي يقدم حكمه العقليّ على النص أم هو الأكثر ذلة و طواعية للنص؟ بالطبع هو المقر أكثر من سواه بعدم قدرته على الحكم فهذا وحده هو الذي يؤتى الحكم والعلم إنّه خاصف النعل . يدرك خاصف النعل أنّه أمام مهمة جديدة هي الصراع بل وقيادة الحرب في الصفحة القادمة صفحة التأويل . وأوّل شيء يتوجب عليه القيام به هو إحباط أيّ محاولة لتغيير النص لأنها الأيسر والأكثر فائدة بالنسبة للعدو الذي يحتاج إلى وقت للتنظير اللغوي ووضعه في اصطلاحات مثل المجاز والترادف . فالنص نظام كلّي إذا أمكن ضبطه من التلاعب فإنه يكشف عن كلّ محاولة أخرى بما في ذلك التنظير اللغوي . والأمر الآخر هوان يكون للنسق قيمته الذاتية من خلال البنية النحوية . هذان الأمران قام بهما معاً خاصف النعل كأول وآخر إجراء له في حياته وقعت بينهما الحرب الفعلية للتأويل بالسلاح . فأوّل شيء قام به هو ضبط النص وآخرها ( النحو ) اللغوي . يقول الحائري : ( أجمعت الشيعة على أن أوّل من جمع القران حسب نزوله من غير خطأ هو أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه هو المحفوظ عند أولاده المعصومين وأنه المودع عند المهدي المنتظر (عليه السلام) وأنه هو المعمول به عند ظهوره وأنه هو الذي يحمل عليه الناس عامة )(3). أقول : قوله على حسب نزوله أخذها من المؤرخين . فحيث ثبت لديهم أنّه أول من جمع القرآن ، تساءل الناس عن الفرق بين هذا المصحف ومصحف عثمان بعد ذلك الذي عمّمه على الأمصار واحرق ما سواه . وكان الجواب على ذلك : أن مصحف علي (عليه السلام) على الترتيب النزولي للقرآن ! وهذا جواب غريب إذ لم تذكر النصوص الأولى المعتمدة عندهم مثل هذه الفقرة . علاوة على أنّ أشكالاً آخر أعظم سيظهر إذ سيقال من سمح إذن للآخرين أن يرتبوه بغير ترتيبه النزولي ؟ وهل من اجل هذا كان يرغب الراغبون بالظفر بهذا المصحف مثل ابن سيرين الذي قال : ( لو أني أصبت ذلك الكتاب لكان فيه العلم ( (4)؟؟ وهل نفهم من قول النبي (صلى الله عليه واله و سلم): (( علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض))(5) إنّه لا يدل فقط على كونه مرتبط بالقران من حيث هو حجّة بل مرتبط به من حيث هو وجود أيضاً . أيّ أن من طلب القرآن فإنه عند علي (عليه السلام) ومن طلب عليّاً فلا بد أن يجد عنده القران ؟ فمن أين جاءت إذن فقرة ( الترتيب النزولي ) ؟ ففي كتاب الحلية عن السدي يرجع الحديث إلى علي (عليه السلام) نفسه حيث يقول: ((لما قبض رسول الله أقسمت أو حلفت الا أضع ردائي عن ظهري حتى اجمع ما بين اللوحين فما وضعت ردائي عن ظهري حتى جمعت القران ))(6) يتوجب إزاء هذا القسم أو الحلف أنّه لم يذق طعم النوم إذ لا يعقل أنّه ينام بردائه . وهذا يعني أنّه في سباق مع الزمن لضبط النص . فقد أشار نصّ آخر إلى أنّه ( ع ) خشي على القرآن الزيادة فيه والتي لاحظها بالفعل : فقد روى عكرمة أنّه لما كان بعد بيعة أبعاده بكر قعد علي بن أبي طالب في بيته فقيل لأبي بكر : قد كره بيعتك! فأرسل إليه فقال : أكرهت بيعتي ؟ قال : لا قال : فما أقعدك ؟ قال : رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدّثت نفسي الاّ البس ردائي الا لصلاة حتى اجمعه قال فقال أبو بكر : نعم ما رأيت! حديت عكرمة هذا عجيب ! فإنه يحول صفحة التأويل وكأنّها بين جبهتين واحدة معلومة والأخرى مجهولة ! وبالطبع فما كان لأبي بكر أن يسأل سؤالاً كهذا بعد أن صافحه في غدير خم على أنّه أمير المؤمنين ! ثم يقلب عكرمة وهو من الخوارج ومن أعداء علي – يقلب قضية الحلف على الرداء فيجعلها لا يضع رداءه على ظهره بدلا من (عن ظهره ) الا لصلاة أو لجمع القرآن وإذن فقد حول الموضوع كلّه إلى قضية بسيطة تطوع لها أحد أعوان الأمير فبارك الأمير عمله !! وخاصة بعدما اقسم أنّه لا يكره بيعته ! وليست غاية عكرمة من صياغة النص صياغة جديدة الا إلغاء الوثائق التي تؤكد هذه القضية أو تسفيه أهميتها التاريخية . ويذكر لنا السيوطي في الإتقان أن ابن حجر قال عن علي (عليه السلام) أنّه جمع القران على ترتيب النزول عقيب موت النبي و(صلى الله عليهاله و سلم)(7) وأنه أخرجه عن أبي داود . وفيه أيضاً يذكر السيوطي حديثاً كالأوّل في القسم المذكور الاّ أنّه ورد بلفظ ( لا آخذ ) : (( لما مات رسول (صلى الله عليه واله و سلم) آليت ألاّ آخذ عليَّ ردائي الا لصلاة جمعة حتى اجمع القران فجمعه )).(8) والغاية من وضع صلاة الجمعة للاشارة إلى أنّه يجمع القران لهم لا خوفاً على القران منهم ويتوجه عليه نفس الإشكال في سبب الحملة التي قام بها عثمان إتماما لأعمال من سبقه في عملية جمع استغرقت زهاء ربع قرن من الزمن . لكن اللفظ في حلية الأولياء هو كما رأيت . وورد ذاته في ( الاستيعاب ) نقلاً نقله صاحب ( المشكاة ) وفيه : ( أن علياً والعباس قعدا في بيت فاطمة لمّا بويع أبو بكر فبعث عمر بن الخطاب ليخرجهما من بيت فاطمة وقال له أن أبيا فقاتلهما ! )(9). و يظهر أن الصراع لم يكن متوقفاً على مجرّد الإمامة بل كان النص القرآني أحد أهم أركان الصراع . ومن المحتمل أن تكون عبارة أبي بكر : نعم ما فعلت قد قالها فعلاً إذ لا يمكن الاعتقاد بأنّهم يفتحون الصراع على كافة الأبواب والجبهات في آن واحد . إذ المؤمل أن هذا النص عند علي (عليه السلام) سيبقى عنده فقط و لن يكون له أيّ اثر فيما بعد ، وذلك حينما يتمّ الاتفاق على نص رسمي والذي لم يكتمل إلاّ في عهد عثمان أو الأصح أنّه لم يخرج الا في ذلك العهد كما سنرى . إذن لم يرد في النصوص الأصلية للواقعة عن الترتيب النزولي شيء وهو من الإضافات التي وضعت لتفسير الاختلاف بين النص الرسمي للدولة والنص الأصلي . ومن المحتمل أن المراد من العبارة المضافة هو هذا لا سواه إذ ورد في بعضها أنّه ( جمعه على ما انزل ) . وإذا كان المقصود هو المقصود الحرفي للعبارة فإنه يتجاوز موضوع الترتيب قطعاً ليشمل اللفظ والسياق بل وتمامية النص الموضوع – أي القران المنزّل لا القرآن المؤلف من قبلهم . ويبدو أنه لهذا السبب قدّمت النصوص أعذارا مبطنة بالاتهام إلى عثمان حيث نقصت بعض السور القرآنية من نحو 70 % من الأصل وبقي منها ما يقرب من 30 % فقط وذلك بالمقارنة مع سواها في الطول .(10) بل بعض الأخبار صرح بوضوحٍ كافٍ أن عثمان قد احرق مصحف عبد الله بن مسعود ، وإذا أردنا تتبع مصحف ابن مسعود وجدناه قد أحيط بعناية خاصة من النبي (صلى الله عليه واله و سلم). فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه واله و سلم) جملة من النصوص تفيد أنّه إذا وقعت حرب النص والتأويل فعليهم أن يهرعوا إلى مصحف ابن أم عبد ، فمنه مثلاً: ما رواه احمد بن حنبل في المسند أن النبي (صلى الله عليه واله و سلم) قال : (( من احب أن يقرا القران كما انزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد ))(11) أو ((غضاً كما انزل)). وقال السندي في الحاشية : الغض : الطري الذي لم يتغير . انتبه : لم يتغير!! وفي المستدرك للحاكم أنّه (صلى الله عليه واله و سلم) قال: (( رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد ))(12) أيّ في القران . فإذا لاحظنا موقفه في قضية الجمع وجدناه غير راض بالعملية برمتها بل حاربها بكلِّ قوة . فقد ذكر البخاري في صحيحه : قال خطبنا عبد الله بن مسعود فقال : أخذت من فم رسول الله بضعاً وسبعين سورة وقد علم أصحابه أني أعلمهم بكتاب الله (2). وفي صحيح مسلم أنّه قال على قراءة من تأمرني أقرأ فلقد قرأت على رسول الله (صلى الله عليه واله و سلم) بضعاً وسبعين سورة (3). بل حرّض ابن مسعود الجماهير التي تملك نسخاً من الصحف أو سوراً متفرقة أن يحتفظوا بها ولا يسلموها للسلطات للحرق في محاولة لمجابهة الحملة الحكومية لاختيار نص ملائم لها ولأهدافها . فقد ذكر ابن الأثير أن ابن مسعود عارض زيد بن ثابت في نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين أأعزل نسخ المصاحف و يتولاها رجل ؟ ثم خاطب زيدا بالقول : ) والله لقد أسلمت وأنه لفي صلب رجل كافر )(13) وفيه أيضاً أنّه قال: يا أهل القران اكتمّوا المصاحف التي عندكم وغلوها ، فإن الله يقول(( ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة )). ويبدو أنه استعمل هذه الآية الكريمة للأمرين في آن واحد : لتوجيه الاتهام إلى الذين يغلون بعض السور وللتحريض على إغلال السور التي يراد إزالتها من النص . فقد نادى أبا ميسرة الذي أتاه لاستلام المصحف الخاص به فرفض قال أبو ميسرة : رحت فإذا أنا بالاشعري وحذيفة وابن مسعود فقال ابن مسعود : والله لا ادفعه يعني مصحفه فقد أقرأني رسول الله (14). وعن خمير بن مالك كما في الحلّية أن ابن مسعود قال: أخذت من فيّ رسول الله (صلى الله عليه واله و سلم) سبعين سورة وزيد صبي من الصبيان له ذؤابتان يلعب معهم أَفَدعُ ما أخذت من رسول الله ؟(15) إذن فقد وجهت الحكومة أولئك الصبيان الولعين بالسلطة والتحكم لتنفيذ خطتها في إجبار ابن مسعود على تسليم مصحفه الخاص . و لعل تكسير ضلوعه بأمر عثمان كان لهذا السبب لا سواه . ثم نادى ابن مسعود كما في شرح البخاري من كتاب فتح الباري نادى قائلا: ( إني غال مصحفي فمن استطاع أن يغلل مصحفه فليفعل )(16) يظهر من بعض النصوص أن زيد بن ثابت قد مُنح صلاحيات واسعة جداً لإرهاب ابن مسعود وأبي بن كعب وهو شخصية أخرى حاول الاحتفاظ بمصحفه أيضاً أمام الإرهاب الحكومي . حيث يشير أحد النصوص إلى زيد بن ثابت أشبه بالشخصية المخابراتية التي يرجع إليها رئيس الحكومة نفسه بل يأتمر بأوامرها. وقد ورد في نفس النص إشارة واضحة إلى أن أمر الوحي كلّه وعملية ترتيب النص هي من صلاحيات زيد وحده ، وهو ما يؤكد لنا السبب وراء لهجة ابن مسعود التي تشير إلى تسليم النص القرآني لرجل واحد كان صبياً يلعب مع الصبيان تارّة أو كان في صلب رجل كافر حينما اسلم أين مسعود ، و ذلك في قوله الآنف الذكر : ( أأعزل نسخ المصاحف و يتولاها رجل ؟ ) ففي عهد عمر تظهر قوة زيد بهذا النص والذي هو اسبق بمدة طويلة من عملية الجمع المعلنة . بل يظهر النص أن عملية ترتيب المصحف قد أوكلت إلى زيد من وقت بعيد ليقوم بها منفرداً بشكلّ سري ويبدو أن مقتل عمر حال دون إعلانها ولذلك أعلنت في عهد عثمان . هذا النص هو ما في منتخب الكنز المطبوع على هامش مسند احمد وصورته كالآتي : ( إن عمر بن الخطاب استأذن يوماً على زيد بن ثابت فأذن له ورأسه في يد جارية ترجّله فنزع رأسه من يد الجارية فقال عمر : دعها ترجّلك . فقال زيد : لو أرسلت إلي يا أمير المؤمنين لجئتك . فقال عمر : ليس هو بوحي تزيد فيه وتنقص إنما هو شيء نترآه فإن رأيته ووافقتني تبعتك وألا فليس عليك شيء . قال : فأبى عليه زيد فخرج عمر مغضبا )(17). فأرجو الانتباه الشديد لمضمون هذا النص فإنه يفسر لنا كلّ ما أردنا ذكره . فالخليفة لديه قضية مهمة جداً يريد من زيد الموافقة عليها! والقضية أكثر خطورة من مشكلة النص القرآني والذي يمكن أن يزيد فيه زيد أو ينقص والجارية ترجل له شعره ! ولذلك يقول له عمر أنّه ليس بوحي تزيد فيه أو تنقص وإنما هو شيء معروض للموافقة عليه . فأبى زيد عليه ذلك وخرج غاضباً . يبدو لنا الآن من هذا أن الشيء الذي جاء من اجله هو موضوع سياسي قطعاً ومرتبط بالعقيدة . ذلك لأنه يقارن الأمر بالوحي والوحي يكون أمره هيناً قياسا لهذا الشيء الذي لم يذكره النص . و يدلنا ذلك على أن الصلاحيات الممنوحة لزيد هي أعلى بالفعل من صلاحيات الخليفة رغم المشهور من شدته . إذن كان زيد يقوم بعملية ترتيب النص القرآني منفرداً وبشكلّ سري في عهد عمر و ربما قبله . وبعدما انتهت صفحة النص بدأت صفحة تأويل النص. والمشكلة هنا اكبر بكثير خلافاً لما يتوهم البعض . وذلك أن النص القرآني يفسر بعضه بعضاً ويدل بعضه على بعض فهو كلام منتظم لا يشبه كلام الآدميين الاّ بكونه بأصواتهم . ولذلك فقد فشلت الحكومة في التستّر على محاولة إخفاء جزء كبير من النص حينما شاع ما أرادت إخفاءه بين العامة والخاصة ، بعد إن قام ابن مسعود وأبي بن كعب بإعلان نقصان آيات وسور من القرآن وخاصة سورة الأحزاب التي كانت تتضمن على ما يبدو آيات بخصوص المتآمرين على النص. فذكر السيوطي في الإتقان عن أبي بن كعب قوله : كأين تعد سورة الأحزاب ؟ فقلت : اثنين و سبعين آية فقال: أن كانت لتعدل سورة البقرة(18). ولما كانت سورة البقرة بحدود (288) آية كان المتبقي من سورة الأحزاب يقرب من الربع فقط ! . و ذكر ابن الأنباري الشيء نفسه في كتاب المصاحف وذكر الخبر وفي زوائد المسند والدارقطني في الأفراد حيث ذكروا عن زر بن حبيش قال : قال لي أبي بن كعب : كيف تقرأ سورة الأحزاب أو كم تعدّها ؟ قال : قلت : ثلاثاً و سبعين آية فقال أبي : قد رأيتها وهي تعدل سورة البقرة(19). وأشار نص آخر إلى أن حذيفة بن اليمان قد أعلن نقصان سورة الأحزاب من نحو سبعين آية . ذكر ذلك البخاري في تاريخه عن حذيفة ونقلته عن الحائري من كتاب الإمامة(20). وذكر صاحب الدر المنثور أقول عكرمة عن نقصان سورة الأحزاب حيث قال:( كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول)(21). بل هناك تصريح لحذيفة بن اليمان بشأن سورة أخرى هي سورة براءة حيث أفاد أن الموجود منها هو الربع أو دونه . فقد ذكر الحاكم في المستدرك على الصحيحين عنه قال : ( ما تقرءون ربعها يعني براءة ) إن توجّه الحكومة نحو هاتين السورتين خصوصاً له ما يبرره أو يفسره . فقد فضحت هاتان السورتان خصوصاً الجماعات المتآمرة وكشفت عنها بصورة مفصّلة حتى سميت براءة بأسماء كثيرة كما في الإتقان وغيره منها : الفاضحة ، والكاشفة والمهلهلة والمبينة .. ولها أحد عشر إسماً. ويشير حديث آخر عن أهل البيت أن سورة البيّنة هي الأخرى من السور الطوال في حين أن الموجود منها الآن سبع آيات فقط . وأشار نص آخر عنهم (عليه السلام) أن أحد الأئمة استودع مصحفاً ورثوه عن علي (عليه السلام) فوجد فيه إسم سبعين عتلاً من قريش في سورة البينة ! وقد ورد عن عائشة وحفصة تدخّلهما في عملية ترتيب النص وإعلانهما عن نقصان آيات أو سور أو تبرير هذا النقصان بعدم قدرة عثمان على أكثر مما هو بين يديه لقتل الصحابة أو موت اغلب الذين حفظوا النص ! وهي متفرقة كثيرة تحتاج إلى دراسات تحليلية لعناصرها التعبيرية وأزمانها لاستخلاص نتائج علمية حول القضية . و بصفة عامة فإن محنة النص والصراع بين فئتين أساسيتين حوله قد منح الفرصة لفئة ثالثة كانت لا تنتفع من النص شيئاً لأنها كانت لا تصل إلى السلطة في كلّ الأحوال ولذلك كانت ترغب في تدمير النص نفسه بإضافة كلام بشري إليه ظاهرياً خدمة للحكومة كلّما احتاجت إلى نص يبرر عملاً ما أو حكماً خاصاً. وقد مارس عمر بنفسه هذه العملية كمقترح أوّليّ حيث قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لأثبتّ في المصحف فقد نزلت : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجمونا البتة نكالاً من الله والله شديد العقاب !(22) و قد سميت هذه فيما بعد بآية الرجم حيث أكدت عائشة على أنّها من القرآن(23). ومع أن هذه الألفاظ ظاهرة في أنّها ليست من القران إذ لا اختصاص في الحكم بالشيوخ دون الشباب ولم يأت في كلّ أديان الله حكماً خاصاً بفاحشة الشيوخ يفرق عن فاحشة من هم دونهم بالسن فإنه يصرح تصريحاً متناقضاً حيث يزعم أنّها نزلت ويزعم أيضاً أنّه لو ثبتها لقالوا : زاد عمر في كتاب الله . فإذا كانت قد نزلت فهي قطعاً من الكتاب فلا زيادة وان كانت زيادة فهي قطعاً لم تنزل ! أقول : إن مشكلة الصراع حول النص القرآني قبل مرحلة الصراع على التأويل قد ترك آثاراً على التأويل وكيفية تطوره ، وقد استغلت فئات عديدة هذا الأمر لأغراض شتى بحيث التبس الأمر على جهابذة العلم إلى هذه الساعة . وإني لا أستطيع بهذه العجالة أن اذكر جميع ما يرتبط بهذا الموضوع الخطير بل ساذكر نتائج هامة سوف تظهر حتماً عند قيام البعض بدراسة تفصيلية للموضوع . فمن تلك النتائج: الأولى : أن المخطط كان يرمي إلى أكثر من غاية وهدف وقد تحقق بعض هذه الأهداف فمن ذلك : التشكيك بالنص وقلب المعادلة . فحيث كان النص القرآني نسيج وحده لا مثيل له ولا يمكن الإتيان بمثله ولو اجتمعت الأنس والجن ، وحيث أن المثل هو أي عبارة أو مقطع فقد حاولوا دسّ عبارات على أنّها من القران لهذه الغاية وهذا هو أول عمل قاموا به ولذلك قال علي (عليه السلام) رأيت كتاب الله يزاد فيه فآليت على نفسي .. الخ الحديث . ولكن لما كانوا قد قالوا له عند عرض الكتاب الذي جمعه : ( عندنا كتاب الله لا حاجة لنا بكتابك ) على ما ذكر عن أهل البيت وهو مشهور حديثهم فقد استمر ذكر تلك المقاطع وكانت تنسب أحيانا إلى جماعات موالية لعلي (عليه السلام) من اجل تمريرها فالتبس الأمر على علماء الشيعة حيث قال الحائري في آية الرجم: (( ولو أن آية الرجم من الآيات غير المنسوخة لما جاز لعمر إثباتها …))(24) و مثل آيات الرضاع .(25) و مثل آية (( لو كان لابن آدم وإذ لبغى ثالثاً…الخ))(26) و مثل الآية (( أن ترغبوا عن آباءكم فإنه كفر))(27) وقد أكدوا هذه الطريقة حينما ابتدعوا موضوع الشاهدين يشهدان للقران ! فإذا جاء رجل عنده سورة ليست عند غيره ردت شهادته ومعلوم أن المعارضين هم نفر معدود مهدّد بقوة السلاح . وكانت آية الرجم من الطرائق الفنية لتمرير هذه العملية . فمن المحتمل أنّها كانت لغرض إثبات قيام الحكومة بعمل شريف ونزيه لأن عمر جاء بها فلم يشهد معه أحد حيث قال النص : ( وأن عمر جاء بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحدة )(28). في وقت كان آخر سورة عند خزيمة بن ثابت فزعموا أنّها قبلت لأن شهادة خزيمة تعد بشهادتين . هذا وينسى القائمون على الأمر والعلماء من بعدهم أن هذه العملية هي نقيض بل محاولة لنقض الوحي لأنه إذا كان القران يثبت عن طريق شهادة رجلين فما أكثر ما يمكن اختلاقه إذن من نصوص وإثباتها على أنّها من القران . فلو ادعى أيّ اثنين لهم رغبة في إدخال نصوصهم مع النص القرآني لكان كلامهم يعدّ قرآناً عندهم !! وهذا من أعجب الأمور فالقرآن كما هو المفروض نص إعجازي اثبت النبي (صلى الله عليه واله و سلم) رسالته عن طريقه فهو برهانه على صحّة ما بلغ به . بينما كانت الطريقة تحاول إثبات العكس فاصبح القران منذ تلك اللحظة مأموما وليس إماما ، وانطلت المكيدة على العلماء حتى افرد السيوطي وغيره فصولا في تواتر النص القرآني ذاهلين عن الأمر برمته ، بل انطلت على الشيعة أنفسهم . فاثبت الخوئي النص القرآني وصحته عن طريق التواتر وقد أبطلنا الفكرة في كتاب ( النظام القرآني ) فراجعه هناك . ومن نتائج هذا الأمر أن الإعجاز قد تمّ إنكاره فعلياً وإن لهجت الألسن به إذ لا فائدة من هذه الدعوات بعد أن اصبح المحجوج بالقرآن وهو الإنسان حجّة على القرآن والقران محجوجاً به . ومن المحال أن يترك صاحب الرسالة (صلى الله عليه واله و سلم) الوحي على هذه الحالة حيث تناقض قولهم هذا مع قولهم أنّه كان يكتب الوحي لديه من نحو أربعين رجلاً وأن جبريل (عليه السلام) عرضه عليه في حجّة الوداع مرتين بدلا من الواحدة كما هو العادة كلّ عام منذ البعثة !! فأقرا واعجب أربعون من كتاب الوحي وعرض كامل للنص سنوياً ثم هو يعرضه عليه مرتين في آخر أيّامه ثم يوصي به و يقول : (( إني تارك فيكم ما أن تمّسكتمّ به لن تمّسكتمّ به لن تضلوا بعدي كتاب الله و عترتي ))(29) فماذا يعني كتاب الله سوى أنّه كتاب مجموع وموجود ؟ بل لتفرض أنه قال : ( كتاب الله وسنتي ) كما عليه أحد النصوص المولع بذكرها الكارهون لبيعة علي (عليه السلام) في غدير خم فالأمر سواء فهو يشير إلى وجود فعلي لكتاب الله ، وبعد هذا كلّه يحتاجون إلى شهود يشهدون حتى يثبتوا أن هذا هو القران !! ترى فأين ذهب التحدي والإعجاز وأين هم الحفظة الذين كانوا يحفظون القران عن ظهر قلب ؟ ويمكن القول أن عملية التشكيك بالنص قد أدت إلى النتائج المطلوبة منها في قلب العلاقة بين النص والمكلّف. الثانية : إخفاء المعلومات و تناقضها حول النص : ولها فوائد كبيرة بالنسبة للحكومات فالحكم بما انزل الله أمر إلهي غير ممكن بغير قانون وفق ما انزل الله وهذا معلوم . وإذن فالحكم المزوّر لما انزل الله يستلزم إحداث مصالحة مع النص في أيّة صورة بحيث أن الحكم العقليّ المستقل عن الشرع يجد له مبرراً في النهاية من النص الشرعي. وهذا العمل غير ممكن حينما يكون النص مغلقاً بنظام لغوي صارم وتحيد نصي قطعي الدلالة . فالنسق يحكي المعنى ولو ساء الفهم الكلّي للألفاظ ودلالتها ألا ترى المرء لا يفهم المفردة فيقول أدخلها لي في عبارة فإذا سمعها في عبارة فهم المراد ؟ وكذلك الجملة الواحدة أو الآية فإنها تظل في حدودها بغير نسق نصي متكامل . فكانت الهجمة الأخرى قد طالت الأنساق في النص وقد سميت هذه العملية بتأليف القرآن وهي تنطوي على جمع آيات مع آيات في سور جمعاً لا علاقة له بالوحي ولم يأمر به النبي (صلى الله عليهواله و سلم ). وقد اقروا – أيّ علماء الإسلام – بهذه المسألة معتقدين أن ذلك ممكن لهم وأنه عملٌ حسنٌ قام به الصحابة ذاهلين عن أن ذلك هو جزء لا يتجزأ من مخطط إخراج النص إخراجا بشرياً لا علاقة له بالوحي لذلك أيضاً اقروا بان السياق ليس بحجّة . ويظهر أن هذه العملية كانت بالغة الصعوبة على زيد المنتدب لها منذ تولية أبي بكر الحكم . وقد احتار العلماء الذين كانوا طيبي النوايا ولم يفهموا المراد من القصة كلّها في تأويل هذه العملية . فقال ابن حجر : ( ظاهر هذا أنّهم كانوا يؤلفون أول السور باجتهادهم ) . وأضاف قائلاً : ( لكن سائر الأخبار تدل على أنّهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك الا بتوقيف )(30). لكنه لم يشرح عملية التوقيف ومفادها وطرائقها . فانظر إلى التناقض بين قوله بالاجتهاد والتوقيف! . إما المحرفون فكان لا يهمهم أن يتقوّلوا ويخلطوا المتناقضات فقال القاضي أبو بكر في الانتصار : ( أن ترتيب الآيات أمر واجب و حكم لازم فقد كان جبريل (عليه السلام) يقول ضعوا الآية كذا في موضع كذا ) . وينسى القاضي أنّه بصدد تبرير عملية التأليف فإذا كان جبريل (عليه السلام) هو القائل فلماذا التأليف ؟ إذ المفروض أن يكون النص جاهزاً و كاملاً في أكثر من نسخة قبل وفاة النبي (صلى الله عليه واله و سلم) أم أنّه يرى أن جبريل كان ينزل على زيد بن ثابت ؟! صحيح أن جبريل كان يأمر بوضع آية كذا في موضع كذا بيد أن هذا المصحف ليس هو المصحف الذي تتحدّث عن تأليفه تلك الروايات . والاّ فما معنى أن يكون عند إبن مسعود مصحف يرفض تسليمه للحكومة وعند أبي بن كعب مثله في وقت يقدم لهم علي (عليه السلام) مصحفه فيرفضون استلامه ! ألا تلاحظ أن هناك ثلاثة مصاحف ! وهل ترى معي اختلاف اسلوب الحكومة في التعامل مع المعارضين ! . فالزعيم الرئيسي لا يطالبه أحد بتسليم مصحفه ! بينما يطالبون اتباعه الذين لا يتجاوز عددهم في كلّ الأحوال عشرة أشخاص بل القراء منهم خصوصاً وهم ثلاثة فقط ابن مسعود وابن كعب وابن عباس . وعلى العكس فالزعيم هو الذي يقدم مصحفه فيرفضون . ولا يوجد سبب لهذا الاّ إذا اعتقدنا بان أخذ مصحف علي (عليه السلام) لا فائدة منه ! ذلك لأن المصحف موجود في قلب علي (عليه السلام) كاملاً بكلِّ ما فيه إذ هو المقصود من العملية كلّها . لقد أدت هذه المعلومات المتضاربة حول النص إلى تناقض العلماء في شرح وتفسير أو تأويل عملية الجمع وشرعيتها . ولو قرأت ما كتبوا بتأنٍّ لرأيت عجباً من التناقضات والغرائب . بيد أن هذا التناقض له فوائد أخرى للاتجاه الإعتباطي فإنه ووفق طبيعته في التفكير يستخدم كلّ واحدة من تلك المعلومات لحل إشكال معين في موضعه غير مكترث بتناقضه مع الموضع الآخر أو مع الخبر الآخر. وبالطبع فهناك وعّاظ سلاطين وعامة يكتبون مقالات إنشائية لا علاقة لها بالوقائع التاريخية الفعلية ويعلمون كذبها ، بيد أنّهم يبرّرون عملهم هذا بحجّة عدم التشكيك في كتاب الله وإخفاء المعلومات عن العامّة لكي لا يشكّوا في القران . ولكننا نلاحظ أن هذا العمل هو من أعمال الذين كفروا لأن القران لا يحتاج إلى مدافعين عنه مطلقاً فهو حجّة على كلّ الخلق مهما فعلوا وهو ما أوَضّحه في النقطة الآتية . هذا البحث القيم مقتبس من كتاب البحث الاصولي (1) تفسير البرهان /ج 24 /ح1- ح6. (2) المستدرك للحاكم /ج 3 /122، الذهبي في التخليص ،مسند احمد بن حنبل /ج3 /33، 82 ، كنز العمال /ج6 / ج 585. الدار قطني في الأفراد عن جابر الجعفي عن الباقر (عليه السلام) . (3) الإمامة الكبرى /محمد حسن الطباطبائي الحائري /283. (4) الصواعق المحرقة /ابن حجر /9 –78 . (5) حلية الأوّليٌّاء /1/67 فهرست لابن النديم /47 ، الصواعق /77. (6) (7) حلية الأوّليٌّاء /1/67. (8) الإتقان في علوم القران /1 / 124 . (9)نفس المصدر /ج1/99. (10) الإمامة الكبرى /ج 1 /284. (11) الدر المنثور /5/179 والمستدرك على الصحيحين وسيأتي النص. (12) مسند احمد /1/26 ،سنن ابن ماجة /1/32 . (13) ابن الأثير /أسد الغابة /عبد الله بن مسعود . (14) صحيح البخاري /ب القراء . (15) صحيح مسلم /ج7/147. (16) جامع الأصول لابن الأثير – عبد الله بن مسعود . (17) فتح الباري /ب / القراء لمشرح صحيح البخاري . (18) حلية الأوّليٌّاء /ج1/125. (19) نفس الموضع من فتح الباري . (20) هامش منتخب الكنز / مسند احمد /ج2/196. (21) الإتقان ج1/141. (22) الدر المنثور /5/179. (23) الإمامة الكبرى /ج1/299. (24) الدر المنثور /ج5/180. (25) صحيح مسلم /ج5/116،مثله في البخاري /ب الحدود و مثله في الموطأ. (26) سنن ابن ماجة /ج1/307. (27) الإمامة الكبرى /311/ج1. (28) صحيح مسلم /ج4/167. (29) الإتقان /ج1/ب جمع القران . (30) صحيح البخاري /ب الحدود /رجم الحبلى . الإتقان في علوم القران ج1/129. نقلا عن السيوطي في الإتقان /ج1/134. | ||
الكاتب: خادم المهدي
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق