كشف العنصر الغائب في عملية الإدراك العقليّ
النظرية القرآنية للإدراك العقليّ إذا اعتمدنا القرآن الكريم وخطاب المعصوم ( عليه السلام ) بل وملاحظاتنا العادية وأحكامنا الوضعية والعرفية وجدنا أن الإدراك العقليّ وقرارات العقل بشأن الاشياء وحكمه فيها يتأثر بعنصر آخر بالغ الأهمية بل هو الأساس في عملية الإدراك أغفلته نظرية المعرفة ومجمل أبحاث الفلاسفة في موضوعة العقل الا وهو ( إرادة الذات ) . فالإنسان في منظور الخطاب الكلّي للدين يتكون من ثلاثة عناصر البدن والنفس والروح ، وإرادة الذات في النفس ، وهي إرادة خفيّـة قد يظهر منها خلاف ما فيها ، وكما أن العقل من توابع البدن إذ مركزه الدماغ فإن للنفس وأرادتها مركز آخر يعبر عنه القران بالقلب والواقع أن السلطة الفعلية والقرارات الأساسية إنما تصدر عن هذا المركز والعقل إنما يقوم بترتيب هذه القرارات ووضعها في صيغ معينة وأحكام ، فهذه الأحكام التي نسميها عقليّة هي وليدة قرارات صادرة عن الذات التي بيدها الأمر والنهي الفعليين ومعنى ذلك أن العقل بمفرده هو مجرّد آلة حاسبة وخازنة للمعلومات وهي جاهزة للعمل بمقتضى أوامر الذات فهي آلة سلبية بمعنى أنّها مسلوبة الإرادة فلا إرادة فيها ولا قرار خالص لها مائة بالمائة الا عند المعصوم ( عليه السلام ) كما سنرى . ولكن في العقل جزء أساسي مثل أيّـّة حاسبة أخرى من صنع الإنسان فيه مبادئ أوّليٌّة لعمله وهي مبادئ فطرية مركوزة فيه يفترض أن الإنسان يقوم بعرض كافة المعلومات الواصلة إليه من الحواس على هذه المبادئ وأجراء المقارنة واستعمال المخزون من المعلومات لاستعمالها في اتخاذ الحكم في موضوع معين. ولكن هذه العملية يحدث لها تخريب مستمر ولا تكتمل بهذه الصورة لوجود ثلاثة أسباب رئيسية : السبب الأوّل : أن الذات تقف حائلاً دون ذلك فلديها غاياتها وأهدافها وهي تأمر العقل أن يتخذ من المبادئ مبرّرات لقرارٍ مسبقٍ حكمت به على العقل . وهذا هو السبب الرئيسي الذي يوقف عملية التعقّل ولذلك فإن أكثر الناس في نظر الحكم الشرعي غير عقلاء لأنهم يمنعون العقل وبقرارات من الذات من القيام بعمله بحرية تامة . قال تعالى : ] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون[ 35/29. فإن قلت المقصود بالضمير ( هم ) مجموعة محدّدة هم الذين كفروا مثلاً قلنا لا فرق فالناتج واحد . وذلك أولاً : لأن الأصوليين لم يحدّدوا العقل العام على أنّه عقل المؤمنين بل لو بدءوا هذه الخطوة لما ظهر المبحث أصلاً . و ثانياً : أن الأكثرية هم أصحاب النار وبالتالي فالأكثرية لا يعقلون – لأن أهل الجنة اقتصروا على الثلل في سورة الواقعة ثلة من الأوّليٌّن –ثلة من الآخرين –ثلة من الأوّليٌّن – قليل من الآخرين – أما أهل النار فهم أمم كاملة من الجن والأنس مع التأكيد على إملاء جهنم منهما . و عدا ذلك فإننا سنذكر لك موارد الكثرة والقلة في موضعها . ولما كانت الذات أنانية تريد الأحكام أن تصدر عنها لا عن العقل فالعقل لا يستقل بالحكم عند أكثر الخلق .. بل العمل معكوس وهو أن الذات تحكم على العقل ولذلك فالجنس الإنساني سائر في طريقين طريق الذين آمنوا وهو طريق التعقّل ويلزم منه التطور والترقي وطريق الآخرين الأكثرية وهو طريق اللاتعقل ويلزم منه التقهقر والانتكاس ولذلك سمّى الإمام الصادق( عليه السلام ) هذا الخلق قائلاً ] هو الخلق المنكوس[ تصديقاً لعملية التسافل والتقهقر التي أكّدها القرآن : ] ثم رددناه اسفل سافلين الا الذين آمنوا و عملوا الصالحات [ التين /5. وإنما ارتبط بعمل الصالحات لأنها موضوع الحكم كما هو واضح لأن الذين يريدون للعقل أن يحكم بعد الموضوع لا قبله إنما هو بسبب القرار الذاتي السابق إذ هم مصرّون على فعل السيئات أي القبائح لا المحاسن فيأمرون العقل بإرجاعها إلى عناوين المحاسن فلاحظ وأنت مندهش دقة التعبير القرآني حينما يجعل هذا الحكم نفسه من القبائح ! وذلك في آية هي من أعجب الآيات وهي لوحدها تدمر كلّ ما جاء عن الفلاسفة بصورة شاملة فيما لو وجد قوم يتدبّرون القرآن حقّ تدبّره . قال تعالى : ] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 4/29. فالآية كما هو واضح في الملازمة العقليّة خصوصاً على ما سأذكره بعد ذلك حيث سآتي بها مرات أخرى لإبطال الأسبقية في الحكم العقليّ وغيره . والسبب الثاني : إن المركوز من الأحكام العقليّة المسبقة في العقل هي أحكام عامة غير تفصيلية . وإرجاع الأفعال إلى عنوانها الخاص من تلك الأحكام ليس بالعمل السهل إذ أنّه يحتاج إلى علم متكامل و جوهري عن الاشياء والأفعال . ولما كان هذا العلم غير متوافر لأغلب الخلق فإن عملية التعقّل تتعثر دوماً ولو مع صحة فعل الذات ، ولذلك يحتاج المرء إلى علم تفصيلي للحكم العقليّ التفصيلي وهو أمر لا يتسنّى الحصول عليه لكلّ أحد باستثناء المعصوم ( عليه السلام ) فيرجع الكلام عليه لأنه موضوع الخطاب ومصدر التشريع . ومن هنا ارتبطت الكثرة بعدم التعقّل مثلما ارتبطت بعدم العلم ولمّا كان الأكثرية يدّعون العلم التفصيلي ادعاءً لأن إرادة الذات عندهم لا تتخلى عن مركزها ولا تأذن للعقل بإصدار مثل هذا الحكم بكون الذات لا تعلم فإنه يصدر أحكاما جزافية آمراً عقله بوضعها بترتيب معين يحاكي فيه المقولات المنطقية وهي ليست منطقية فيضّل بها الناس وهؤلاء هم كثرة كما يخبرنا النص القرآني قال تعالى: ] وأن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم [ 119/6. على أن النص نفى العلم عن أكثرية الناس أيضاً لارتباطه بعملية التعقّل كما رأيت قال تعالى : ] ولكن أكثرهم يجهلون[-111/6 ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون [-38/16. ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون [-40/12 ]قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [-25/31. السبب الثالث : أن المعلومات المنقولة إلى العقل لأجل استخدامها في عملية الإدراك وإصدار حكم على الشيء إنما تأتي من مصدرين : الأوّل : ما يأتي عن الآخرين السابقين . الثاني : ما يأتي مباشرةً عن طريق الحواس . فالأوّل يأتي عن طريق الثاني أيضاً سماعاً أو نظراً أو قراءة وما شابه وأصل الأوّل أنّه جاء من تركيب أحكام افضل ما تكون أنّها مأخوذة عن حواس أيضاً بعد إدراكها بالعقل . و في هذه العملية عدة مشاكلّ : الأوّلى : احتمال الخطأ في النقل . الثانية : احتمال الخطأ في أدراك المنقول على وجهه الصحيح ، خاصة وأن النقل يتمّ باللغة التي لم تُحدّد طبيعتها بعد ولازال الجدل يدور حول قدرتها على التعبير الدقيق عن الاشياء أو لا. الثالثة : احتمالات الخطأ في الحواس ذاتها حيث ترى العين ماء فإذا هو سراب وأخطاء الحواس كما أثبته الطب والتجارب لا تحصى بل فيها تغيرات بحسب وضع الجسم وأحواله وأحوال المُستقبِل للمعلومات من مزاج و صحة و سقم وغيرها. الرابعة : أخطاء المزج والتعريف بين المدركات بعضها مع بعض وإرجاع المعلولات إلى عللها الأصلية حيث تختلط بصورة كبيرة وهي أشياء يعاني منها العلم التجريبي الحديث بالرغم من أن طريقته هي افضل طرائق الإدراك المعروفة حتى أن الفلاسفة أنفسهم تمّنّوا أن تكون للفلسفة طريقة كالتي في العلم الحديث بل حاول بعضهم صياغة فلسفة من هذا النوع كما فعل (فرنسيس بيكون ) وأمثاله في الغرب . ومثل هذه الأخطاء هي أشياءٌ معلومةٌ في العلم الحديث وُضعت للتقليل منها آلاف المعدات وآلاف الرسائل العلمية وصرفت عليها المبالغ الطائلة ومع ذلك فإن لها نسبة لا بد منها في النتائج . الخامسة : أخطاء القياس وأخطاء العقل ذاته . والمقصود بالعقل هنا عملية التركيب العقليّ للأحكام والاستنتاج وعليه جرت مسائل الاختبار العقليّ واختبارات الذكاء بل ومختلف المسائل الموهمة لأغراض شتى بما في ذلك التندّر والظرافة وإثارة الضحك بسبب من وقوع العقل في أخطاء جسيمة لا تغتفر . ومثال ذلك أني لو سألتك أن تقطع ورقة إلى نصفين وتضع أحدهما فوق الأخرى ثم تقطع هذين مرة أخرى لتكون أربعة مرة وتضعها بعضها على بعض وتعيد الكرة أربعين مرّة وسألتك كم سيبلغ سمك مجموعة الورق ؟ فبماذا تجيب؟ . لقد سألت هذا السؤال لعشرات الأشخاص بما في ذلك خريجي الجامعات فكان بعضهم يقول متر وبعضهم يقول مترين واطلب منهم أن يزيدوا الارتفاع ما استطاعوا وبما تقدره عقولهم كأبلغ ما تكون فكان أكثر من بالغ فيهم في تقدير السمك أن زعم أنّه سيبلغ سقف الغرفة ! . أما الحقيقة فإن السمك سيبلغ مسافة اكبر من المسافة بين الأرض والقمر بأضعاف على تقدير أن سمك الورقة نصف مليمتر مثلاً . وإنما ضربت هذا المثل ليستوعب أكثر الاحتمالات المذكورة آنفاً – فالذوات يرفضون حسب أحكام مسبقة راسخة عندهم أيّ تقدير كبير للسمك فلا يعطون للعقل حرية أجراء الحساب بل يصر بعضهم على خطأ النتيجة بالرغم من كونها مسألة رياضية ، ولذلك يتمّ استقبال السؤال من قبلهم بصورة عشوائية وعلى ظاهره ثم يجرون عملية قياس وأدراك وفق هذا الحكم المسبق متجاهلين عملية التضاعف . فكيف إذا كان للذّات مصلحة ما في الحكم ، وكيف إذا كان الموضوع موضوع فكر لا موضوع أرقام ؟ . ومن هنا ندرك أن فكرة استقلال العقل بالحكم فيها دور ومصادرة على المطلوب ذلك لأن الخلق مختلفون بالفعل والملل مختلفة والمذاهب مختلفة . والاتفاق موجود على العموم من أحقية الحقّ بالاتباع وضرورة نبذ الباطل . وإنما اختلفوا بسبب اختلاف متطلبات الذوات لأن الحقّ ظاهر وواضح ومع ذلك اختلفوا فجاء الخطاب الإلهي لإزالة الاختلاف حصراً كما مر عليك في الآية الكريمة والغاية منه استبعاد الأخطاء المذكورة آنفاً . فإذا قيل أن العقل يحكم في التفاصيل فكأن الشرع لا ضرورة له بعد هذا وكأن القائل يزعم أنّهم لن يختلفوا . ولا ينفع وضع جزء من المدركات تحت عنوان ( غير المستقلات ) . بل يلزم منه إلغاء المستقلات كما سنرى ، ولذلك فليس ثمة الا أحد احتمالين : إما عقل لا يحكم مستقلاً وشرع ضروري أو عقل يحكم مستقلاً ولا ضرورة للشرع . أما الجمع بينهما فهو محال . أقول أيضاً : كلّ ذلك على الزعم بوجود عقلٍ جمعيٍّ عامٍ فكيف إذا علمنا أن العقول مختلفة من حيث سعة المعلومات والذكاء وقوة الذاكرة ؟ وكلّها أسباب تمّهّد للاختلاف في الحكم العقليّ . ولذلك ادّعى الذين يؤلهون العقل أن الواجب احترام كلّ الآراء لأنهم أدركوا تماماً أن عدم الاختلاف محال في ذاته فإذا لم يحكموا بحكم الشرع نشبت الحرب بينهم فلا سلام إلا برفع شعار احترام كلّ الآراء وهي دعوى ظاهرها الحرية وباطنها تمرير الباطل مع الحقّ ، ذلك أن الحرية لا مدخل لها هنا فهي ثابتة لا سلطة لأحد على سلبها بهذا المعنى ، بل الحرية الحقّيقية هي في التحرر من الباطل – و تحديداً من الحكم العقليّ الخاطئ ـ ويفترض أن يكون الشعار مقلوباً وهو احترام كلّ رأي له برهان ساطع وعدم احترام أيّ رأي لا برهان له من هذا النوع . أما في الواقع المعاين فإن عنصر الذات الظاهر مع العقل لا يمكن إنكاره ، بل التعامل جارٍ عليه دوماً . وتوضيح ذلك : انك حينما تتوّخى العدل في إصدار الأحكام تأخذ بنظر الاعتبار الذوات لا الأفعال وحدها . فالعقل والذات هما تقسيم طبيعيٌّ تستخدمه أنت وغيرك يومياً وفي كلّ مكان ، فأنت لا تذمُّ المخطئ في حساباته الا فيما يتعلق بخطأ الحساب ولا تؤذيه في العقاب الا إذا شعرت بإهمالٍ مقصودٍ وصادرٍ عن الذات أو رغبةٍ مسبقةٍ في حساب الاشياء على هذا النحو . ذلك لأن خطأ العقل من غير قصد من الذات يختلف عند أهل العرف بل ومثبّتٌ في القانون الوضعي رغم مساوئه الكثيرة . فالفاعل عن عمد له عقاب مختلف عن الفاعل من غير عمد وما عبارة ( مع سبق الإصرار والترصد ) الا عبارةٌ الغاية منها التفريق بين الفعلين . وقد جرت عادة الخلق كلّهم على ذلك إلى أدنى المستويات ففي البيوت يفرّقون بين خطأ الطفل العمدي وغير العمدي ، والعمدي عندهم حالة شاذّة تهتمّ لها العائلة التي تدرك أهمية الأخلاق بحيث تُستنفر لتحصين الطفل من الأمراض النفسية إذ يعتبرونه غير سوي فيما إذا صدر عنه الخطأ عمداً . بينما أخطاء العقل وحده بلا أمر من الذات كالنسيان والخطأ إذ أن لفظ ( خطأ ) لغة يراد به خطأ العقل فإنه هيِّنٌ ، بل أورد القرآن دعاءاً للمؤمن بعدم المؤاخذة عليه قال تعالى : ] ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا [-286/2. ولذلك اختلف الحكمان في مسألتي قتل المؤمن عمداً أو قتله خطأً. فالقتل العمدي وعد عليه العذاب الأبدي الذي لا نهاية له ، والخطأٍ في قتله لم يحكم عليه الا بالدّية المسلّمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة . والفارق بين العقابين كالفارق بين المحدود واللانهائي . والخطاب الإلهي كلّه إنما جاء ليخاطب الذات لكي تستخدم العقل بما صممه له الحكيم من غايات . ولذلك لم يعد بالعذاب الا أولئك الذين لم يحرروا عقولهم من قيود الذات وأغلالها . ولذلك لم ينشأ اختلاف الناس بسبب اختلاف عقولهم فهذا الاختلاف هيِّن جداً وإنما بسبب اختلاف استخدامهم لعقولهم والذي منشئاه نواياهم . وأنت تعلم أن العقاب والثواب في الدِّين إنما جرى على النوايا إذ الأعمال تبعٌ لها . وليس من معنى للنوايا الا طلبات الذوات من العقول . وعلى مستوى الجدل والنقاش يظهر العنصران أيضاً في كافّة المحاورات ، فأنت تترك الشخص الملحد المصرّ على رأيه وتقول في نفسك : (لا ينفع معه الدليل لأنه لا يريد أن يؤمن ) . وليس هناك من معنى لعبارتك ( لا يريد أن يؤمن ) الا في كونه مصرٌ على حساب الاشياء على نحو معينٍ بحيث أن الأدلة لا فائدة منها . ولذلك صرّح القران أن بعض الناس لا يؤمنون : ] ولو جاءتهم كلّ أيّة حتى يروا العذاب الأليم [ يونس /98 وهذا التأكيد القرآني المستمر على عدم إيمان البعض بالرغم من كلّ الآيات والبراهين إنما يُثبت بنحوٍ قاطعٍ وجود عنصرين هما الذّات الآمرة والعقل المفروض عليه أمر الذّات إذ لو كان العقل محرراً من أوامر الذات لآمنوا . بل لا يبقى أصلاً أيّ موضوع للعقاب والثواب والحساب عموماً لو كان الإنسان عقلاً مجرّداً لأنهم قالوا : إن العقل واحدٌ متشابهٌ عند كافّة الخلق ، ويكون الناس كلّهم على هذا فرداً واحداً متعدِّدَ الأبدًن وهذا محال . وعلى المستوى العملي يلاحظ القضاة والحكام أوامر الذّات ويميزون جيداً بينها وبين أحكام العقل . فالقاضي يحقِّق مع المتّهم والمتّهم ينفي التهم الموجهة إليه ويأمر عقله بحساب الاشياء وعناصر القضيّة بما يخدم الحكم ببراءته حتى لو كان مجرماً بالفعل . ولو كان حكمه العقليّ مستقلاً عن الذات ومحرَّراً لما جرى أصلاً أيّ حوارٍ عن عناصر القضية . ولذلك منح القانون الوضعي هامشاً للقاضي للحكم ليأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الذوات بالرغم من وحدة الجريمة ، حيث لا يمكن إغفال هذا العنصر والذي يكشف عنه القاضي البارع من خلال التحقيق في كافة جوانب القضية . ولذلك يعمد القاضي إلى تخفيف الحكم إلى أدنى حدٍّ إذا أدرك أن الفاعل لم يقصد الفعل ذاته بل طلب نتائج الفعل فقط . ولهذا ذلك ندرك أن سبب الاختلاف بين الناس مردُّه إلى الاختلاف في نواياهم لا عقولهم ، بما في ذلك اختلافهم في الحكم العقليّ موضوع البحث حيث أنكره الاشعرية خدمة لفكرة اختيار الإمام ومنع منه الإمامية لإثبات فكرة تنصيب الإمام بالرغم من توحِّدهم في الدِّين والقبلة والكتاب والرسول (صلى الله عليه واله و سلم ). وإذن فماذا يقصدون باصطلاحهم الغريب الذي هـو ( حكم العقلاء ) ؟ . فإن كانوا يقصدون به الناس كافة فالناس قد اختلفوا في الضروريات فضلاً عن التفاصيل ، وإن كانوا يقصدون أهل الكتب المنزّلة فإنهم قد اختلفوا أيضاً ، وأن كانوا يقصدون به أهل القبلة فاختلافهم في حكم العقل نفسه إنما يبرهن على عدم وجود حكم عام للعقلاء على هذا الزعم . فاعجب إذن واندهش ما قَدَرتَ على هذا التناقض والتغافل عن أصل المبحث . ولكن الذي يبدو من كلامهم أنّهم يعنون بالحكم العقليّ هو العام جداً مثل قبح الظلم وحسن العدل وهي أمثالٌ جاءوا بها وهي غريبة عن موضوع البحث . وهذا الحكم العام هو خطأ جسيم لأن الظالم أشدّ إعلاناً عن قبح الظلم من كلّ العادلين ولكنه لا يعتبر فعله من جملة الظلم ، و يأمر عقله وعقول أتباعه بإعطاء تصوّرٍ منطقيٍّ عن حسن أفعاله لتكون من جملة العدل لا الظلم . والمقصود بالحكم العقليّ والذي يفيد في إيقاع الفعل في موضوعه وصولاً إلى الحكم الشرعي من خلال الملازمة العقليّة هو هذا الحكم الخاص بالتفاصيل لا الحكم العام . والسؤال الهام هنا هو : في أيّ شيءٍ يكون العقل حجّة ؟ فهل هو حجّة في كلّ أمر وهل هو حجّة على صاحبه أو غيره ؟ وهل يعلم فاعل القبيح بقبح الفعل وفاعل الحسن بحسن الفعل بغض النظر عن الحكم الشرعي ؟ . والجواب عليه مختلفٌ عما ذكروه لأن العقل – عقل الفرد –حجّة على نفسه إذ لو أنكر قبح القبيح عامداً واحتمل اتّفاق المجرمين على ذلك كما يحدث دوماً في دولٍ وإمبراطوريات وممالك كبيرة تهيـِّأ لها وسائل الأعلام وأزلام الحاكم ذلك فهل يؤخذ بحكمهم ويعتبر حجّة ؟ . إذن فما يذكرونه عن العقل ـ بغضّ النظر عن الأحكام العامّة ـ بما هو عقل لا عن كلّ عقل على انفراد . فإذا وجدت الأصوليين يتحدّثون عن العقل عموما تارّة و عن عقل الأفراد فرداً فرداً تارّة أخرى فهو من خلطهم لاستبعادهم عنصر الذات الآمرة للعقل والتي يرجع إليها الحكم الفعلي في الاشياء . فلكي نجيب على السؤال الآنف الذكر هناك ستة عناصر وردت في القرآن الكريم يجب البحث فيها لاستخلاص نظريّة في الحكم العقليّ الحكم العقليّ هي : الأوّل : العلم ، الثاني : الشعور ، الثالث : الحساب العقليّ ، الرابع : الدراية ، الخامس : التذكر ، السادس :التعقّل. فهذه الألفاظ الستة وردت في القرآن وهي جميعاً ذات صلة هامة بموضوع الإدراك العقليّ . وإضافة إلى ذلك يجب دراسة وسائل الإدراك العقليّ ومراكزه ، فثمة مركزان هما : العقل والقلب . وأما الوسائل فهي ثلاثة : السمع والبصر والفؤاد . إن العمليات السابقة ترتبط بتخطيط الذات والذي يظهر في صورتين هما المشيئة والإرادة وتظهر النتائج بعد ذلك بمختلف الصور والنماذج منها : السرّ والإعلان والإبداء والكتمّان والتكذيب والتصديق والإنكار والاعتراف والقول والجعل والادِّعاء والاشتهاء والفعل والصنع والخلق والعمل والتذكر والنسيان والكره والحب والكفر والإيمان والشرك والإخلاص وغيرها من النشاطات والأفعال المختلفة . ولأن مثل هذه الدراسة ستكون واسعة جداً لا ضرورة لها في هذا الموضع فإني سأكتفي بذكر ما له صلةٌ بإثبات وجود مركزي الإدراك العقل والقلب حيث سنثبت أن القلب تحديداً هو المسؤول عن الفقه والعقل ليس سوى آلة حاسبة مساعدة وحسب . هذا البحث القيم مقتبس من كتاب المبحث الاصولي للمرحوم عالم سبيط النيلي | ||
الموضوع الأصلي: كشف العنصر الغائب في عملية الإدراك العقليّ
الكاتب: خادم المهدي
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق