ارتباط الفقه بالمركز القلبيٌّ لا العقليّ
إن هذا الارتباط بديهيٌّ مادام الفقه والفقاهة عملاً عقليّاً وإدراكاً علمياً مرتبطاً بقرارات الذات الآمرة . فقد يكون المرء عارفاً بكلِّ العلوم على التفصيل الا أنّه ليس بفقيه فلا يفقه شيئاً إذا كان عقله يصدر أحكاما مختلفة متناقضة لغايات في نفسه ، ذلك لأن العلم هو غير الفقاهة ، فالفقاهة أصلاً هي عملية ترابط المعلومات المأخوذة من الخارج بالأوّليات المودعة في العقل في الجزء المرتبط كلّياً بالذات و مركزها أيّ القلب . فهذه الأوّليات لا يمكن للذات تبديلها أو تغييرها مطلقاً ولكن يمكنه فقط الامتناع عن استخدامها وحرية الإنسان إنما تكمن في هذه العملية : هل يطابق المعلومات الداخلة مع الأوّليات أم يقوم بإخفاء الأوّليات ؟ و يجري الحساب أيضاً على هذا النشاط . فإذا فعل وربط المعلومات بأوّليات العقل تعقّل الأمر وإذا لم يفعل لم يتعقّل شيئاً ، بل يقوم بإيداع المعلومات في الذاكرة ويستعملها لأغراضه وأهدافه الخاصة ، ولذلك فإن للمرء قدرة على إلباس الحقّ لباس الباطل أو العكس كما حدّثنا القرآن عن بعض علماء أهل الكتاب فلم ينفعهم علمهم في تفقّه الدِّين ، بل سبّب لهم الدخول إلى النار . من هنا لم تكن ثمة إشارة قرآنية إلى وجود علاقة بين الفقه والعمل العقليّ ، بل العكس تماماً فقد تمّ تأكيد العلاقة بين الفقه والمركز الآمر للعقل أي ( القلب ) . لاحظ الموارد القرآنية : 1. ] لهم قلوب لا يفقهون بها [ 179\7 هذا تشخيص أوّليٌّ لهم فالقلوب موجودة بيد أنّهم لا يفقهون بها ومعنى ذلك أن الفقاهة من نشاطات القلب ، إذ دخلت باء الواسطة على الضمير الراجع للقلوب . 2. ] فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون[ 93\63 فالطبع على القلوب في هذه المرحلة أدّى إلى حجب الفقاهة وذلك بالرغم من احتمال سعة المعلومات فقد يكون المرء له علم الا أنّه لا يفقه قال تعالى : ] أرأيت من اتخذ ألهه هواه واضلّه الله على علمٍ و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة [ 23/45 لاحظ أن الهوى ما هو الا الحكم المسبق بحيث أنّه لا ينتفع بالعلم بل يضلّه الله على هذا العلم ويختم على سمعه و قلبه . 3 . ] وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون[ 87\9 ارتباط آخر بين الفقاهة وعمل القلب . 4. ]صرف الله قلوبهم بأنّهم قوم لا يفقهون[ 127\9 ارتباطٌ علِّيٌّ آخر بين صرف القلوب وعدم الفقاهة . 5. ] على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه [ 46 \47 ارتباط آخر نفى فيه إمكان يفقهوه بسبب وجود الأكنّة على القلوب . 6. ] إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه [ الكهف/57 واضح أن العقول لم يعد فيها نفع مادامت القلوب في أكنةٍ فالحقائق لا تدخل هذا المركز ولا يطلبها الذات من العقل وإنما يطلب من العقل ترتيب المقولات لصالح أهداف الذات فهو غير متحرّر وعقله مقيد بهذا القيد . أقول من هنا سمّاهم عبيداً لا عباداً لأنهم داخلين في الطاعة كرهاً لا طوعاً . 7 . ]وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه[ الأنعام / 25 لا فرق في أن يكون الضمير في الآيات يعود إلى الكتاب أو القرآن أو الوحي ..الخ . إذ نحن بصدد الخطاب الشرعي وكلّ تلك الألفاظ هي تعابير عن الخطاب ، وبالتالي فالفقاهة هنا هي المقصود (كما يفترض) من الاصطلاح الأصولي نفسه لكنهم حجبوا الفقاهة عن الرسول (صلى الله عليه واله وسلم ) وقالوا لا يسمّى على الاصطلاح فقيهاً و كأنّهم يعترفون أن الفقاهة على الاصطلاح لا علاقة لها بالفقاهة التي جاء بها الخطاب الشرعي فتأمّل وأعجب ! ففي ماذا هم فقهاء إذن إذا كانوا غير فقهاء في الخطاب الشرعي؟ معلوم أن هذا المبحث وحده يسقط مبحث الملازمات العقليّة ، إذ يتبين منه أن العقل منفعل لا علاقة له بالفقاهة فسيسقط مبحث حجّية العقل فوراً . للمناقشة : لكني أعلم قدرتهم في ليِّ الكلام وحذقهم في الخروج من المآزق من فربّما قالوا :هذا صحيح ولكن القلب في تلك الآيات ليس إلاّ تعبيراً مجازيّاً عن العقل فهو تارّة يسميه عقلاً وتارّة يسميه قلباً. فنقول : نعم نسلم بذلك ولكن هل يسميه عقلاً أو قلباً جزافاً أم لعلّةٍ مرادةٍ في الكلام ؟ فإن قالوا : لا لعلةٍ مطلقاً خرجوا من الملّة لنسبتهم العبث إلى الحكيم وإن قالوا : بل لعلةٍ فعليهم بيان تلكم العلة مثلما بيّنا نحن الفرق بين القلب والعقل . وأخشى على القارئ الانخداع إذا قالوا : يسمّيه عقلاً إذا أراد اعتقال الأمر وضبطه ويسميه قلباً إذا كان الحديث عن تغيره وتقلّبه بالأهواء فيعود الحديث إلى العقل . أقول : أخشى على القارئ الانخداع لأنهم إن قالوا هذا فقد اعترفوا بما نقول وإن لم يشعروا . فهم يردّون فيه على أنفسهم إذ يقرّون بتغّير الدلالة بين اللفظين العقل والقلب وهو كاف لإثبات وجود عنصرين ، إذ يبقى السؤال قائماً : من ذا الذي يجعل العقل تارّة يضبط الشيء وتارّة لا يفعل الاّ عكس ذلك فينقلب عن الحقّ ؟ . وبالطبع فلا جواب إلا نفس الجواب وهو ذات الإنسان وعليهم أن يبحثوا عنها في إسمٍ قرآنيٍّ آخرٍ غير القلب . وهذا العمل مثل الذي يقول : لا أدخل الغرفة أبداً فلا يدخل من الباب وإنما يدخل من الشباك ويصر على أنّه لم يدخل الغرفة . فالقلب هو القلب والعقل هو العقل وهما لفظان مختلفان دلالة في كلّ لهجة ولغة من لغات الأمم ، على أننا أبطلنا المجاز والترادف في موضعهما ويفترض أننا لا نحتاج إلى الرد على أيّ اعتراضٍ من هذا النوع . والأسلم لهم أن يعترفوا أن المراد من القلب هو شئ غير المراد من العقل في نظام القرآن . وألاّ فماذا يفعلون بالآية التي تتحدّث عن عمى القلوب التي هي تحديداً في الصدور حيث قال سبحانه وتعالى : ] فإنها لا تَعَمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصُدور[ الحج/46 هذا البحث القيم مقتبس من كتاب البحث الاصولي للمرحوم عالم سبيط النيلي | ||
الموضوع الأصلي: ارتباط الفقه بالمركز القلبيٌّ لا العقليّ
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق