كلام بعض القدماء في ذم الاجتهاد و متابعة الآراء
قد علمت أن انحصار طريق معرفة العلوم الشرعية أصولية كانت أو فرعية في الرواية عن أهل البيت عليهم السلام وعدم جواز التمسك في شيء منها إلي المقدمات الجدلية والاستنباطات الظنية كان من شعار متقدمي أصحابنا وأصحاب الأئمة صلوات اللَّه عليهم. فاعلم أنهم صنفوا في ذلك كتباً و رسائل فمن الكتب المصنفة في ذلك (كتاب النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد) ذكره النجاشي في ترجمة إسماعيل بن علي بن إسحاق, و منها كتاب الإيضاح للفضل بن شاذان النيسابوري و كان من أجل أصحابنا الفقهاء و قد روى عن أبي جعفر الثاني ع و قيل عن الرضا ع أيضاً و قد صنف مائة و ثمانين كتاباً و ترحم أبو محمد عليه مرتين أو ثلثا و قال بعد أن رأى تصنيفه و نظر فيه و ترحم عليه "أغبط أهل خراسان بمكان الفضل بن شاذان", قال في كتابه المذكور في القوم المتسمين بالجماعة المنسوبين إلي السنة: إنَّا وجدناهم يقولون إن اللَّه تبارك و تعالي لم يبعث نبيه إلي خلقه بجميع ما يحتاجون إليه من أمر دينهم و حلالهم و حرامهم و دمائهم و مواريثهم و رقّهم و سائر أحكامهم و أن رسول اللَّه ص لم يكن يعرف ذلك أو عرفه فلم يبينه لهم و أن أصحابه من بعده و غيرهم من التابعين استنبطوا ذلك برأيهم و أقاموا أحكاما سموها سنة اجروا الناس عليها و منعوهم أن يجاوزوها إلي غيرها و هم فيها مختلفون يحل بعضهم منها ما يحرمه بعض و يحرم بعضهم ما يحله بعض. و قال في حق الشيعة إنهم يقولون أن اللَّه جل ثناؤه تعبد خلقه بالعمل بطاعته واجتناب معصيته علي لسان نبيه ص فبين لهم جميع ما يحتاجون إليه من أمر دينهم صغيراً كان أو كبيراً فبلغهم إياه خاصاً و عاماً و لم يكلهم إلي رأيهم و لم يتركهم في عمى و لا شبهة, علم ذلك من علمه و جهل ذلك من جهله فأما ما أبلغهم عاما فهو ما الأمة عليه من الوضوءِ و الصلاة والخمس و الزكاة و الصيام و الحج و الغسل من الجنابة و اجتناب ما نهى اللَّه عنه في كتابه من الزنا و السرقة و الاعتداء و الظلم و الرياء وأكل مال اليتيم وأكل الربا و ما أشبه ذلك مما يطول شرحه وتفسره و هو معروف عند الخاصة و العامة. و أما ما بلّغه خاصاً فهو ما وكلنا إليه قوله عز وجل " أطيعوا اللَّه و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم" و قوله "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فهذا خاص لا يجوز أن يكون من جعل اللَّه له الطاعة علي الناس أن يدخل في مثل ما هم فيه من المعاصي و ذلك لقول اللَّه جل ثناؤه " و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" علمنا أن الظالمين ليسوا بأئمة يعهد إليهم في العدلعلي الناس و قد أبى اللَّه أن يجعلهم أئمة و علمنا بقوله تبارك و تعالي "إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعم ما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً" أن ذلك عهد عهده إليهم لم يعهد هذا العهد إلا إلي أئمة يحسنون أن يحكموا بالعدل و لا يجوز أن يأمر أن يحكم بالعدل من لا يحسنه. ثم قال بعد كلام طويل ثم رجعنا إلي مخاطبة الصنف الأول فقلنا لهم ما دعاكم إلي أن قلتم إن اللَّه تعالى لم يبعث نبيه إلي خلقه بجميع ما يحتاجون إليه من الحلال و الحرام و الفرائض و الأحكام وان رسول اللَّه ص لم يعلم ذلك أو علمه فلم يبينه للناس حتى توفى؟ و ما الذي اضطركم إلي هذا القول؟ قالوا لم نجد الفقهاء يروون جميع ما يحتاج إليه الناس في أمر الدين و الحلال و الحرام عن النبي ص ـ وأن جميع ما أتانا عنه أربعة آلاف حديث فقط في التفسير والحلال والحرام و الفرائض من الصلاة و غيرها فلابد للناس من النظر فيما لم تأتنا به الرواية عنه و استعمال الرأى فيه و تجويز ذلك لنا قول رسول اللَّه ص لمعاذ ابن جبل حين و جّهه إلي اليمن بم تقضى يا معاذ؟ قال بالكتاب قال فما لم يكن في الكتاب؟ قال فبالسنة قال فما لم يكن في السنة؟ قال أجتهد رأيي قال الحمد اللَّه الذي وفق رسول رسوله فعلمنا انه قد أوجب أن من الحكم ما لم يأت به في كتاب و لا سنة وانه لابد من استعمال الرأى. وقوله ص إنما مثل أصحابي فيكم مثل النجوم بأيها اقتديتم اهتديتم, وقوله اختلاف أصحابي لكم رحمة. فعلمنا انه لم يكلنا إلي رأيهم إلا فيما لم يأتنا به ولم يبينه لنا و تقدم في ذكر الصحابة الأولين فيما قالوا فيه برأيهم من الأحكام و المواريث و الحلال و الحرام فعلمنا أنهم لم يفعلوا إلا ما هو لهم جائز و أنهم لم يخالفوا الحق ولا خرجوا منه, و لم يكونوا ليجتمعوا علي باطل فلا لنا أن نضلّلهم فيما فعلوا فاقتدينا بهم فإنهم الجماعة و الكثرة ويد اللَّه علي الجماعة ولم يكن اللَّه ليجمع الأمة علي ضلال. قيل لهم إن اكذب الروايات و أبطلها ما نسب الله عز وجل فيه إلي الجور و نسب نبيه ص فيه إلي الجهل, و في قولكم إن اللَّه لم يبعث إلي خلقه بجميع ما يحتاجون إليه تجويز له في حكمه و تكذيب بكتابه لقوله " اليوم أكملت لكم دينكم" و لا تخلو الأحكام إما أن تكون منالدين أو ليست من الدين, فإن كانت من الدين فقد أكملها و بينها لنبيّه ص, و إن كانت عندكم ليست من الدين فلا حاجة بالناس إليها, و لا يجب في قولكم عليهم بما ليس من الدين, و هذه شنعة و هي متصلة بمثلها من تجهيل النبي ص و ادعائكم استنباط ما لم يكن يعرفه من فروع الدين و حق الشيعة الهرب مما أقررتم به منهاتين الشنعتين اللتين فيهما الكفر باللَّه وبرسوله. قال: وفيما ادعيتم من قول النبي صلى الله عليه وآله لمعاذ تكذيب بما أنزله الله وطعن على رسوله فأما ما كذبتم به من كتاب الله فما قدمناه في صدر كتابنا من قوله تعالى: وان احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، وقوله: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ، وقوله: وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، وقوله: لا يشرك في حكمه أحدا ، وقوله: ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين ، وقوله: له الحكم واليه ترجعون ، وقوله: واصبر لحكم ربك ، وما أشبهه مما في الكتاب يدل على أن الحكم لله وحده فزعمتم انه ليس في الكتاب ولا فيما أنزل الله على نبيه ص ما يحكم به بين الناس فيما اختلفوا فيه، وان معاذا يهتدى إلى ما لم يوح الله إلى نبيه ص وانه يهتدى بغير ما اهتدى به النبي ص، وأوجبتم لمعاذ أن رأيه في الهدى كالذي أوحى الله إلى نبيه ص فرفعتم مرتبته فوق مرتبة النبوة إذ كانت النبوة بوحي ينتظر ومعاذ لا يحتاج إلى وحى بل يأتي برأيه من قبل نفسه، فمثلكم كما قال الله تعالى: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا، أو قال: أوحي إلى ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، فصار معاذ عندكم يهتدى برأيه ولا يحتاج في الهدى إلى وحي والنبي يحتاج إلى وحى، ولو جهد الملحدون على إبطال نبوته ص ما تجاوزوا ما وصفتموه به من الجهل. ثم أخبرنا الله تعالى أن أصل الاختلاف في الأمم كان بعد أنبيائهم فقال: كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين - الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم فحمدتم أهل البغي وقلتم: اختلافهم رحمة واقتديتم بالخلاف وأهل الخلاف وصرفت قلوبكم عمن هداه الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، ويحقق لنا عليكم قول الله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم فاتبعتم أهل الاختلاف واتبعنا من استثناه الله بالرحمة، فلما ضاق عليكم باطلكم أن يقوم لكم بالحجة أحلتم على الله بالتجوير في الحكم من تكليفه كما زعمتم إياكم ما لم يبينه لكم، وعلى نبينا ص بالتجهيل في قولكم انه لم يبين لكم الطاعة من المعصية، وعلى أهل الحق والمصدقين لله ولرسوله بالعداوة والبغضاء، وعلى الحق من أحكام الكتاب بالعبث والإلحاد. إلي آخر ما قاله من هذا القبيل مع ما فيه من التطويل سيما فيما طعن به في خبر معاذ و اقتصرنا علي ذلك فان القطرة تدل علي الغدير و الحفنة تهدى إلي البيدر الكبير و لغيره رضي اللَّه عنه أيضا كلمات في ذلك لا تحضرني الآن و فيما ذكرنا كفاية لطالب الحق و اليقين و بلاغاً لقوم عابدين, و لقد تكلمنا مع أقوام من أهل العلم في هذا الشأن فانصفونا و صدقونا و رجعوا عن مذهب الأصوليين إلي طريقة الإخباربين و منهم من سبقنا إلي ذلك مع دعاء و نداء إلا إني لم أجد بهذه الطريقة عاملا و لا أراه فيه كاملا كأنه لم يصر بعد من الأحرار أم يظن أن مخالفة الجمهور ومتاركة المشهور من العار واللَّه المستعان. | ||
الكاتب: ناصر الموعود
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق