الآيات والأخبار الواردة في ذم الاجتهاد ومتابعة الآراء
و لعلك تقول من أين قلت أن الشارع منع من الاجتهاد و العمل بالرأي, و أن المنع من ذلك كان معروفاً من مذهب الإمامية حتى بين مخالفيهم؟ فنقول أول من منع من اقتفاء الرأي و إتباع الظن و ارتكاب الاجتهاد هو اللَّه سبحانه قال عز من قائل " إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا " . و قال سبحانه " إِنْ يَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ " (أي يقولون بالتخمين). و قال " وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ". و قال " بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ". و قال عز وجل " وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ". و قال " فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ". و قال " قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ". وقال "وَ لَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنا بَعْضَ اْلأَقاويلِ * َلأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمينِ* ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتينَ" و قال " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ". و قال " أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ". و قال " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ". و قال " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ". وقال " وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ". و قال " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ". " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ". و في الحديث القدسي " ما آمن بي من فسر كلامي برأيه .. و ما علي ديني من استعمل القياس في ديني " رواه الصدوق في أماليه. و عن النبي ص " من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ " و هو مشهور. و في نهج البلاغة من كلام أمير المؤمنين ع في ذم اختلاف العلماء في القياس " ترد علياحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها علي غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعا و إلههم واحد و نبيهم واحد و كتابهم واحد أفأمرهم اللَّه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم فعصوه أم انزل اللَّه تعالي دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى أم انزل اللَّه دينا تاماً فقصر الرسول ص عن تبليغه و أدائه و اللَّهسبحانه يقول "ما فرطنا في الكتاب من شيىء", "و فيه تبيان كل شيىء" و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً وانه لا اختلاف فيه فقال سبحانه "و لو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا", و إنالقرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه و لا تكشف الظلمات إلاَّ به. قال ابن أبى الحديد عند شرحه لهذا الكلام يقول لا ينبغي أن يحمل جميع ما في الكتاب العزيز علي ظاهره فكم من ظاهر فيه غير مراد بل المراد به أمر آخر باطن و المراد الرد علي أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية و إفساد قول من قال كل مجتهد مصيب و تخليص الاجتهاد من خمسة أوجه: احدها انه لما كان الإله سبحانه واحدا و الرسول ص واحداً و الكتاب واحداً وجب أن لا يكون الحكم في الواقعة إلا واحدا كالملك الذي يرسل إلي رعيته رسولا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه و إمرته فانه لا يجوز أن تتناقض أوامره و لو تناقضت لنسب إلي السفه والجهل. و ثانيها لا يخلوا الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون إما أن يكون مأموراً به أو منهياً عنه والأول باطل لأنه ليس في الكتاب و السنة ما يمكن الخصم أن يتعلق به في كون الاختلاف مأموراً به و الثاني حق و يلزم منه تحريم الاختلاف. و ثالثها إما أن يكون دين الإسلام ناقصا أو تاما فان كان الأول كان اللَّه سبحانه قد استعان بالمكلفين علي إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله إما استعانة علي سبيل النيابة عنه أو علي سبيل المشاكلة له و كلاهما كفر و إن كان الثاني فإما أن يكون اللَّه سبحانه انزل الشرع تاماً فقصر الرسول عن تبليغه أو يكون الرسول قد بلغه علي تمامه و كماله فان كان الأول فهو كفر أيضا و إن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد لان الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين فأما ما تبين فلا مجال للاجتهاد فيه. و رابعها الاستدلال بقوله تعالي "ما فرطنا في الكتاب من شيىء" و قوله "فيه تبيان كل شيىء" وقوله سبحانه "و لا رطب و لا يابس إلا في كتاب مبين" فهذه الآيات دالة علي اشتمال الكتاب العزيز علي جميع الأحكام فكل ما ليس في الكتاب وجب أن لا يكون من الشرع. و خامسها قوله تعالي "و لو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " فجعل الاختلاف دليلا علي انه ليس من عند اللَّه لكنه من عند اللَّه سبحانه بالأدلة القاطعة الدالة علي صحة النبوة فوجب أن لا يكون فيه اختلاف. قال: و اعلم أن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الإمامية و نفاة القياس و الاجتهاد في الشرعيات و قد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم انتهى. أقول و في كلامه هذا دلالة علي أن نفي الاجتهاد كان معروفا من مذهب الإمامية حتى عند مخالفيهم كما أن نفي القياس كان معروفا من مذهبهم. و في نهج البلاغة أيضا من كلام أمير المؤمنين ع في صفة من يتصدى للحكم من الامة و ليس لذلك بأهل " إن ابغض الخلائق إلي اللَّه رجلان رجل و كله اللَّه إلي نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة و دعاءِ ضلالة فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته, و رجل قمش جهلا موضع في جهال الأمة عادٍ في أغباش الفتنة عَمٍ بما في عقد الهدنة قد سماه أشباه الناس عالماً و ليس به بكّر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر حتى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضياً ضامنا لتخليص ما التبس علي غيره فإن نزلت به إحدى المبهمات هيّأ لها حشواً رثاً من رأيه ثم قطع به فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدرى أصاب أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون قد اخطأ و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب جاهل خيّاط جهلات عاش ركاب عشوات لم يعضّ علي العلم بضرس قاطع يذرى الروايات إذراء الريح الهشيم لا مليء و اللَّه بإصدار ما ورد عليه ولا هو أهل لما فوض إليه لا يحسب العلم في شيىء مما أنكره و لا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره و إن اظلم عليه أمرا اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه تصرخ من جور قضائه الدماء و تعج منه المواريث إلي اللَّه أشكو من معشر يعيشون جهالا و يموتون ضلالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته و لا سلعة أنفق بيعاً و لا أغلي ثمناً من الكتاب إذا حرف عن مواضعه و لا عندهم أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر. قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام إن قيل بّين الفرق بين الرجلين الذين أحدهما رجل و كله اللَّه إلى نفسه و الآخر رجل قمش جهلا فإنهما في الظاهر واحد. قيل أما الرجل الأول فهو الضال في أصول العقائد كالمشبّه و المجبّر و نحوهما ألا تراه كيف قال مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة و هذا يشعر بما قلناه من أن مراده به المتكلم في أصول الدين و هو ضالعن الحق و لهذا قال انه فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن يجيء بعده و أما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات و ليس بأهل لذلك كفقهاءِ السوء ألا تراه كيف يقول جلس بين الناس قاضيا. و قال أيضا يصرخ من جور قضائه الدماء و يمج منه المواريث. و من كلامه له ع " و آخر قد يسمى عالما و ليس به فاقتبس جهائل من جهال و أضاليل من ضلال و نصب للناس أشراكاً من حبال غرور و قول زور قد حمل الكتاب علي آرائه و عطف الحق علي أهوائه يؤمن منالعظائم و يهون كبير الجرائم يقول أقف عند الشبهات و فيها وقع و يقول اعتزل البدع و بينها اضطجع فالصورة صورة إنسان و القلب قلب حيوان لا يعرف باب الهدى فيتبعه و لا باب العمى فيصد عنه فذلك ميت الأحياء فأين تذهبون فأنى تؤفكون و الأعلام قائمة والآيات و واضحة و المنار منصوبة فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون و بينكم عترة نبيكم و هم أزمة الحق و أعلام الدين و ألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين ص إنه يموت من مات منا و ليس بميت و يبلي من بلي منا و ليس ببال فلا تقولوا بما لا تعرفون فان أكثر الحق فيما تنكرون و اعذروا من لا حجة لكم عليه و هو أنا ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر و أترك فيكم الثقل الأصغر قد ركزت فيكم راية الإيمان و وقفتكم علي حدود الحلال و الحرام و ألبستكم العافية من عدلي وفرشتكم المعروف من قولي و فعلي و أريتكم كرائم الأخلاق من نفسي فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر و لا تتغلغل إليه الفكر. و من كلام له ع في خطبة له " ما كل ذي قلب بلبيب و لا كل ذي سمع بسميع و لا كل ذي ناظر ببصير فياعجبا و مالي لا أعجب من خطإ هذه الفرق علي اختلاف حججها في دينها لا يتقصون أثر نبي و لا يقتدون بعمل وصى و لا يؤمنون بغيب و لا يعفون عن عيب يعملون فيالشبهات و يسيرون في الشهوات المعروف فيهم ما عرفوا و المنكر عندهم ما أنكروا مفزعهم في المعضلات إلي أنفسهم و تعويلهم في المبهمات علي آرائهم كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى و ثقات و أسباب محكمات. و من كلامه ع " اعلموا عباد اللَّه أن المؤمن يستحل العام ما استحل عاما أول و يحرم العام ما حرم عاما أول و إن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرم عليكم و لكن الحلال ما أحل اللَّه و الحرام ما حرم اللَّه. و في التهذيب بسنده عن أبي جعفر ع قال قال ع " لو قضيت بين رجلين بقضية ثم عادا إلىَّ من قابل لم أزدهما علي القول الأول لأن الحق لا يتغير". و في هذين الخبرين دلالة و واضحة علي بطلان ما أشتهر بين المجتهدين و عليه بناء الاجتهاد و علي الاجتهاد بناءه أن للمجتهد أن يرجع عن قوله إذا بدا له دليله في دليله. و مثلهما في الدلالة ما رواه في الكافي بإسناده عن زرارة قال سئلت أبا عبد الله ع عن الحلال و الحرام فقال حلال محمد حلال إلي يوم القيمة و حرامه حرام إلي يوم القيمة لا يكون غيره و لا يجيء غيره ". و ما في نهج البلاغة أيضا من كلامه ع في ذكر القرآن " أتم به نوره و أكمل به دينه و قبض نبيه و قد فرغ إلي الخلق من أحكام الهدى به فعظموا منه سبحانه ما عظم من نفسه فإنه لم يخف عنكم شيئا من دينه و لم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلا و جعل له علما بادياً و آية محكمة تزجر عنه أو تدعوا إليه فرضاه فيما بقى واحد و سخطه فيما بقى واحد و أعلموا انه لن يرضى عنكم بشيء سخطه علي من كان قبلكم و لن يسخط عليكم بشيء رضيه ممن كان قبلكم و إنما تسيرون في أثر بين و تتكلمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم ". قال ابن أبى الحديد في شرح هذا الكلام قوله فرضاه فيما بقى واحد معناه أن ما لم ينص عليه صريحاً بل هو في محل النظر ليس يجوز للعلماء أن يجتهدوا فيه فيحله بعضهم و يحرمه بعضهم بل رضا اللَّه سبحانه أمر واحد و كذلك سخطه فليس يجوز أن يكون شيء من الأشياء يفتى فيه قوم بالحل و قوم بالحرمة و هذا قول منه ع بتحريمالاجتهاد و قد سبق منه ع مثل هذا الكلام مرارا. قوله ع و اعلموا انه ليس يرضى عنكم بالاختلاف في الفتاوى و الأحكام كما اختلف الأمم من قبلكم فسخطه اختلافهم قال سبحانه "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء" و كذلك ليس يسخط عليكم بالاتفاق الذي يرضيه ممن كان قبلكم من القرونانتهى كلامه. و في تفسير أبى محمد العسكري ع عن أمير المؤمنين ع انه قال " يا معشر شيعتنا والمنتحلين مودتنا إياكم و أصحاب الرأي, فإنهم اعداء السنن تفلتت منهم الأحاديث أن يحفظوها وأعيتهم السنة أن يعوها, فاتخذوا عباد اللَّه خولا, و مالهم دولا, فذلت لهم الرقاب و أطاعهم الخلق أشباه الكلاب, و نازعوا الحق أهله, و تمثلوا بالأئمة الصادقين و هم من الجهال و الكفار و الملاعين, فسئلوا عما لا يعلمون فأنفوا أن يعترفوا بأنهم لا يعلمون, فعارضوا الدين بآرائهم فضلوا وأضلوا. أما لو كان الدين بالقياس لكان باطن الرجلين أولي بالمسح من ظاهرهما. و في الكافي عن أبى جعفر ع قال خطب أمير المؤمنين ع فقال أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع و أحكام تبتدع يخالف فيها كتاب اللَّه يتولى فيها رجال رجالا فلو أن الباطل خلص لم يخف علي ذي حجى و لو أن الحق خلص لم يكن اختلاف و لكن يؤخذ من هذا ضغث و من هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معاً فهنالك أستحوذ الشيطان علي أوليائه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى. و بإسناده عن أمير المؤمنين ع في حديث طويل " و من عمى نسى الذكر و اتبع الظن و بارز خالقه" قيل المراد بالذكر القرآن يعنى قوله تعالي "و إن الظن لا يغني من الحق شيئا" . و بإسناده عن مسعدة بن صدقة قال حدثني جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا ع قال " من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس و من دان اللَّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس" , قال وقال أبو جعفر من أفتى الناس برأيه فقد دان اللَّه بما لا يعلم و من دان اللَّه بما لا يعلم فقد ضاد اللَّه حيث أحل و حرم فيما لا يعلم. و في بصائر الدرجات بإسناده عن أبى جعفر ع لو أنَّا حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا و لكنا حدثنا ببينة من ربنا بينّها لنبيه ص فيبّنها لنا. و في الكافي ما يقرب منه فإذا كان الاعتماد علي الرأي من أهل العصمة يؤدى إلي الضلال فكيف من غيرهم ع. و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال قلت لأبي عبد الله ع إن قوماً من أصحابنا تفقهوا وأصابوا علما ورووها أحاديث فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم فقال لا و هل هلك من مضى إلاّ بهذا و أشباهه. و بإسناده عنه ع قال أنهاك عن خصلتين ففيهما هلك الرجال أنهاك أن تدين اللَّه بالباطل وتفتى الناس بما لا تعلم. و فيه عن يونس بن عبد الرحمن قال قلت لأبى الحسن الأول ع بما أوحدّ اللَّه فقال يا يونس لا تكونن مبتدعاً من نظر برأيه هلك و من ترك كتاب اللَّه و قول نبيه كفر. و في بصائر الدرجات بإسناده عن أبى الحسن ع قال إنما هلك من كان قبلكم بالقياس و إن اللَّه تبارك و تعالي لم يقبض نبيه حتى أكمل له جميع دينه في حلاله و حرامه فجاءكم مما تحتاجون إليه في حياته و تستغنون به و بأهل بيته بعد موته و إنها مصحف عند أهل بيته حتى أن فيها لأرش خدش الكف . و إنه ليس شيىء في الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج إليه الناس إلا وجاء فيه كتاب أو سنة. و في المحاسن عن محمد بن حكيم قال قال أبو الحسن ع إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا و إذا جاءكم ما لا تعلمون فها و وضع يده علي فمه. فقلت و لم ذاك؟ فقال لأن رسول اللَّه أتى الناس بما اكتفوا به علي عهده و ما يحتاجون إليه من بعده إلى يوم القيمة. و في الكافي عنه ع مثله. و في المحاسن بإسناده عن يحيى الحلبي و ابن مسكان و حبيب قالوا قال لنا أبو عبد الله ما أحد أحب إلىَّ منكم, إن الناس سلكوا سبلا شتى منهم من أخذ بهواه, و منهم من أخذ برأيه, وأنكم أخذتم بأمر له أصل. و في حديث آخر لحبيب عن أبى عبد الله ع قال إن الناس أخذوا هكذا و هكذا فطائفة أخذوا بأهوائهم و طائفة قالوا بآرائهم و طائفة بالرواية و اللَّه هداكم لحبه و حب من ينفعكم حبه عنده. و في التهذيب بإسناده عن الصادق ع قال إنَّا إذا وقفنا بين يدي اللَّه تعالي قلنا يا رب أخذنا بكتابك و قال الناس رأينا رأينا و يفعل بنا وبهم ما أراد. و في رواية أخرى عملنا بكتابك و سنة نبيك. و في الكافي بإسناده عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله ع ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب اللَّه و لا سنة فننظر فيها؟ فقال لا أما إنك إن أصبت لم تؤجر و إن أخطأت كذبت علي اللَّه عزوجل. و في الفقيه قال الصادق ع الحكم حكمان حكم اللَّه عزوجل و حكم أهل الجاهلية فمن أخطأ حكم اللَّه حكم بحكم أهل الجاهلية و من حكم بدرهمين بغير ما أنزل اللَّه فقد كفر باللَّه تعالى. و في الكافي عن أبى بصير قال سمعت أبا عبد الله ع بقول من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللَّه عز وجل فهو كافر باللَّه العظيم. و فيه انه ع قال لابن أبى ليلي أنت ابن أبى ليلي قاضى المسلمين قال نعم قال فبأي شيء تقضي قال بما بلغني عن رسول اللَّه ص و عن علي ع و عن أبي بكر و عمر. قال فبلغك عن رسولاللَّه ص أنه قال إن علياً ع أقضاكم؟ قال نعم. قال فكيف تقضي بغير قضاء عليّ ع و قد بلغك هذا قال فما تقول إذا جيء بأرض من فضة و سماء من فضة ثم أخذ رسول اللَّه ص بيدك فأوقفك بين يدي ربك فقال يا رب إن هذا قضى بغير ما قضيت. قال فاصفر وجه ابن أبى ليلي حتى عاد مثل الزعفران. و بإسناده عن عبد الرحمن من الحجاج قال كان أبو عبد الله قاعداً في حلقة ربيعة الرأى فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأى عن مسألة فأجاب فلما سكت قال له الأعرابي هو في عنقك فسكت ربيعة فقال أبو عبد الله ع هو في عنقه قال أو لم يقل و كل مفت ضامن. و عن أبى عبيدة الحذاء قال أبو جعفر ع من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللَّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه و زر من عمل بفتياه. و عن أبى بصير عن أبى عبد الله ع قال قلت له "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللَّه" فقال أما و اللَّه ما دعوهم إلي عبادة أنفسهم و لو دعوهم ما أجابوهم و لكن احلوا لهم حراما وحرموا عليهم حلالا فعبدوهم من حيث لا يشعرون. و في روضة الكافي بأسانيد متعددة عن أبى عبد الله ع في رسالة طويلة قال ع " أيتها العصابة المرحومة المفلحة إن اللَّه أتم لكم ما آتاكم من الخير و اعلموا انه ليس من علم اللَّه و لا من أمره أن يأخذ أحد من خلق اللَّه في دينه بهوى و لا برأي و لا مقاييس قد أنزل اللَّه القرآن و جعل فيه تبيان كل شيء و جعل للقرآن و لتعلم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن الذين هديهم اللَّهعلمه أن يأخذوا فيه يهوى و لا رأى و لا مقاييس أغناهم اللَّه عن ذلك بما آتاهم اللَّه من علمه و خصهم به و وضعه عندهم كرامة من اللَّه أكرمهم بها وهم أهل الذكر الذين أمر اللَّه هذه الأمة بسؤالهم و هم الذين من سألهم و قد سبق في علم اللَّه أن يصدقهم و يتبع أثرهم أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلي اللَّه بإذنه و إلي جميع سبل الحق و هم الذين لا يرغب عنهم و عن مسألتهم و عن علمهم الذي أكرمهم اللَّه به وجعله عندهم إلا من سبق عليه في علم اللَّه الشقاء في أصل الخلق تحت الأظلة فأولئك الذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر و الذين آتاهم اللَّه علم القرآن و وضعه عندهم و أمر بسؤالهم و أولئك الذين يأخذون بأهوائهم و آرائهم و مقاييسهم حتى دخلهم الشيطان لأنهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللَّه كافرين و جعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند اللَّه مؤمنين و جعلوا ما أحل اللَّه في كثير من الأمر حراما و جعلوا ما حرم اللَّه في كثير من الأمر حلالا فذلك أصل ثمرة أهوائهم و قد عهد إليهم رسول اللَّه ص قبل موته فقالوا نحن بعدما قبض اللَّه عزوجل رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأى الناس بعدما قبض الله عز وجل رسوله ص و بعد عهده الذي عهده إلينا و أمرنا به مخالفا للَّه و لرسوله ص فما أحد أجرى على الله و لا أبين ضلالة ممن أخذ بذلك و زعم أن ذلك يسعه و اللَّه إن للَّه علي خلقه أن يطيعوه و يتبعوا أمره في حياة محمد ص و بعد موته .. اتبعوا آثار رسول الله ص وسنته فخذوا بها و لا تنبعوا أهوائكم و آرائكم فتضلوا فان أضل الناس عند اللَّه من اتبع هواه و رأيه بغير هدى من اللَّه. و فيه أيضا " أيتها العصابة الحافظ للَّه لهم أمرهم عليكم بآثار رسول اللَّه و آثار الأئمة الهداة من أهل بيت رسول اللَّه ص من بعده و سنتهم فإنه من أخذ بذلك فقد أهتدى و من ترك ذلك ورغب عنه ضل لأنهم هم الذين أمر اللَّه بطاعتهم و ولايتهم. و في المحاسن بإسناده عن أبي عبد الله ع أنه قال في رسالته : " و أما ما سألت من القرآن فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة لأن القرآن ليس على ما ذكرت و كل ما سمعت فمعناه غير ما ذهبت إليه و إنما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم و لقوم يتلونه حق تلاوته و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه فأما غيرهم فما أشد إشكاله عليهم و أبعده من مذاهب قلوبهم و لذلك قال رسول الله ص ليس شيء بأبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن و في ذلك تحير الخلائق أجمعون إلا من شاء الله و إنما أراد الله بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه و صراطه و أن يعبدوه و ينتهوا في قوله إلى طاعة القوام بكتابه و الناطقين عن أمره و أن يستنطقوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم ثم قال وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ فأما غيرهم فليس يعلم ذلك أبدا و لا يوجد و قد علمت أنه لا يستقيم أن يكون الخلق كلهم ولاة الأمر إذ لا يجدون من يأتمرون عليه و لا من يبلغونه أمر الله و نهيه فجعل الله الولاة خواص ليقتدي بهم من لم يخصصهم بذلك فافهم ذلك إن شاء الله و إياك و إياك و تلاوة القرآن برأيك فإن الناس غير مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الأمور و لا قادرين عليه و لا على تأويله إلا من حده و بابه الذي جعله الله له فافهم إن شاء الله و اطلب الأمر من مكانه تجده إن شاء الله ". أقول تكريره ع قوله فإنهم إشارة إلي أن العالم بذلك كله كما ينبغي هم عليهم السلام خاصة. و في كتاب المحاسن أيضاً في باب المقاييس و الرأى عنه عن أبيه عمن ذكره عن أبي عبد الله ع في رسالته إلى أصحاب الرأي و القياس أما بعد فإنه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء و المقاييس لم ينصف و لم يصب حظه لأن المدعو إلى ذلك لا يخلو أيضا من الارتياء و المقاييس و متى ما لم يكن بالداعي قوة في دعائه على المدعو لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعو بعد قليل لأنا قد رأينا المتعلم الطالب ربما كان فائقا لمعلم و لو بعد حين و رأينا المعلم الداعي ربما احتاج في رأيه إلى رأى من يدعو و في ذلك تحير الجاهلون و شك المرتابون و ظن الظانون و لو كان ذلك عند الله جائزا لم يبعث الله الرسل بما فيه الفصل و لم ينه عن الهزل و لم يعب الجهل و لكن الناس لما سفهوا الحق و غمطوا النعمة و استغنوا بجهلهم و تدابيرهم عن علم الله و اكتفوا بذلك دون رسله و القوام بأمره و قالوا لا شيء إلا ما أدركته عقولنا و عرفته ألبابنا فولاهم الله ما تولوا و أهملهم و خذلهم حتى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون و لو كان الله رضي منهم اجتهادهم و ارتياءهم فيما ادعوا من ذلك لم يبعث الله إليهم فاصلا لما بينهم و لا زاجرا عن وصفهم و إنما استدللنا أن رضا الله غير ذلك ببعثه الرسل بالأمور القيمة الصحيحة و التحذير عن الأمور المشكلة المفسدة ثم جعلهم أبوابه و صراطه و الأدلاء عليه بأمور محجوبة عن الرأي و القياس فمن طلب ما عند الله بقياس و رأى لم يزدد من الله إلا بعدا و لم يبعث رسولا قط و إن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتى يكون متبوعا مرة و تابعا أخرى و لم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا و لا مقياسا حتى يكون ذلك واضحا عنده كالوحي من الله و في ذلك دليل لكل ذي لب و حجى أن أصحاب الرأي و القياس مخطئون مدحضون و إنما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل فإياك أيها المستمع أن تجمع عليك خصلتين إحداهما القذف بما جاش به صدرك و إتباعك لنفسك إلى غير قصد و لا معرفة حد و الأخرى استغناؤك عما فيه حاجتك و تكذيبك لمن إليه مردك و إياك و ترك الحق سامة و ملالة و انتجاعك الباطل جهلا و ضلالة لأنا لم نجد تابعا لهواه جائزا عما ذكرنا قط رشيدا فانظر في ذلك. و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصى و فيما ذكرناه كفاية إن شاء اللَّه. إن قيل قد جاءت روايتان احديهما عن أبى جعفر و أبى عبد الله عليهما السلام أنهما قالا "علينا أن نلقى إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا" و الثانية عن أبى الحسن الرضا ع قال علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع" و هذا هو الإذن في الاجتهاد فكيف التوفيق. قلنا ليس معنى الحديثين ما ذهبت إليه كلا بل ليس معناهما إلاّ لنعمد إلي ما ألقوا إلينا من الأحكام الكلية فنستخرج منها أحكاماً جزئية بالبراهين اليقينية بأحد الأشكال الأربعة وليس هذا من اجتهاد الرأى و استنباط الحكم بالظن في شيء في ذلك مثل قولهم عليهمالسلام "لا ينقض اليقين أبدا بالشك و لكن ينقضه يقين آخر" فإنَّا نفهم من هذا الحديث يقيناً أن المتيقن للطهارة الشاك في الحدث لا يجب عليه الطهارة و المتيقن لطهارة ثوبه الشاك في وصول نجاسة إليه لا يجب غسله و المتيقن لشعبان الشاك في دخول رمضان لا يجبعليه الصيام إلي غير ذلك من الجزئيات. و مثل قولهم ع "كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهى", و قولهم عليهم السلام "كل شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه", و قولهم عليهم السلام "كلما غلب اللَّه عليه من أمر فاللَّه أعذر لعبده", و قولهم عليهم السلام "إذا جزمت من شيءِ ثم شككت فيه فشكك ليس بشيء", إلي غير ذلك من الأصول الكلية التي يتفرع عليها الجزئيات و قد ذكرنا طرفا منها فيكتابنا الموسوم بالأصول الأصيلة فليطلبها من أرادها هنالك مع تتمة الكلام و بسطه في ذلك و للَّه الحمد. | ||
الكاتب: ناصر الموعود
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق