الآيات والأخبار الدالة علي إثبات المتشابه وبيان حكمه
المتشابه ما لا يظهر معناه المقصود منه, و حكمه أن يرد إلي المحكم إن وجد, و هو مثل تأويله من أهله و إلا ترك علي حاله من المتشابه فان المحكم فيه حينئذ, و يرد علمه إلي اللَّه ويحتاط في العمل, و لا يجوز تأويله لغير أهله لورود النهى عنه و قد يطلق المتشابه عليالمحكم الذي تعارضت أدلته كما إذا اختلفت الأخبار و حكمه بعد استيفاء ساير مراتب الترجيح المنقولة الخيار, و أما الاشتباه في كيفية العمل بعد معرفة الحكم الشرعي فيجوز الاجتهاد فيه لورود الرخصة بذلك و للزوم الحرج البين لولاء, و هذا كما إذا تعارضت إمارات جهة الكعبة و إمارات إضرار الصوم بالمرض و عدم إضراره و نحو ذلك و عليه يحمل الخبر الذي روته العامة من اجتهد فأصاب فله أجران و من اجتهد فأخطأ فله اجر واحد إن صح الخبر و إلا فالذي رواه أولي به, و أول من اثبت المتشابه في الحكم الشرعي هو اللَّه سبحانه قال اللَّه عزوجل: " هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ إلي قوله وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ . و قال عز أسمه: "وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ". و قال اللَّه تعالي: " وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ". و قال: " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ". و في الحديث النبوي المتواتر بين العامة و الخاصة " إنما الأمور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتبع, و أمر بيّن غيّه فيجتنب, و شبهات بين ذلك, و الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات,و من ترك الشبهات نجى من المحرمات, و من اخذ بالشبهات ارتكب المحرمات, و هلك منحيث لا يعلم. و في الفقيه قال خطب أمير المؤمنين ع فقال إن اللَّه تبارك و تعالي حد حدوداً فلا تعتدوها, وفرض فرايض فلا تنقضوها, و سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً لها فلا تكلفوها, رحمة من اللَّه لكم فاقبلوها, ثم قال علي ع حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك, فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له اترك, و المعاصي حمى اللَّه فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها. و قوله ع وسكت عن أشياء إلي قوله فاقبلوها معناه أن كل ما لم يصل إليكم منالتكاليف و لم يثبت في الشرع فليس عليكم شيىء فلا تكلفوه علي أنفسكم فإنه رحمة مناللَّه لكم و في هذا قيل " اسكتوا عما سكت اللَّه عنه". و من كلامه ع في وصيته لابنه الحسن ع " دع القول فيما لا تعرف و الخطاب فيما لا تكلف. و في الكافي بإسناده عن زرارة بن أعين قال سألت أبا جعفر ع " ما حق اللَّه علي العباد قال أن يقولوا ما يعلمون, و يقفوا عندما لا يعلمون ". و بإسناده عن أبى عبد اللَّه ع مثله و في أخره " فإن فعلوا ذلك فقد أدّوا إلي اللَّه حقه. و بإسناده عنه ع قال " الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة, و تركك حديثاً لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه ". و في عيون أخبار الرضا عنه ع قال " من ردّ متشابه القرآن إلي محكمه هدى إلي صراط مستقيم, ثم قال ع إن في أخبارنا متشابه كمتشابه القرآن, فردوا متشابهها إلي محكمها, ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا ". و في محاسن البرقي بإسناده عن محمد بن الطيار قال قال لي أبو جعفر ع تخاصم الناس قلت نعم قال و لا يسألونك عن شيىء إلا قلت فيه شيئاً قلت نعم قال فأين باب الرد إذاً . و يستفاد من هذه الروايات أن ما لا طريق لنا إلي علمه فهو عنا موضوع و لا يلزم علينا بل لا يجوز لنا أن نتكلف تعرفه بالاستنباطات المظنونة. وروى الصدوق عن أبى عبد الله ع قال قال رسول اللَّه ص " و رفع عن أمتي الخطاء و النسيان و ما استكرهوا عليه و ما لا يطيقون و ما لا يعلمون و ما اضطروا إليه و الحسد و الطيرة و التفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة ". و فيه بإسناده عنه ع قال "ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم". و فيه عنه ع قال " منعمل بما علم كفي ما لم يعلم ". و في الكافي بإسناده عن عمر بن حنظلة قال سألت أبا عبد الله ع عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلي السلطان أو إلي القضاة أيحل ذلك, قال من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلي الطاغوت, و ما يحكم له فإنما يأخذ سحتا و إن كان حقا ثابتاً له, لأنه اخذ بحكم الطاغوت و قد أمر اللَّه أن يكفر به قال اللَّه عزوجل: يريدون أن يتحاكموا إلي الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به. قلت فكيف يصنعان؟ قال: ينظران من كان منكم قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما, فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللَّه و علينا ردّ و الراد علينا راد علي اللَّه و هو علي حد الشرك باللَّه. قلت فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقهما و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم ؟ قال الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما وأصدقهما في الحديث و أورعهما, و لا يلتفت إلي ما يحكم به الآخر. قال قلت فإنهما عدلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما علي صاحبه, قال فقال ينظر إلي ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما عليه المجمع عليه من أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك فان المجمع عليه لا ريب فيه, و إنما الأمور ثلاثة: أمر بيّن رشده فيتبع و أمر بيّن غيّه فيجتنب و أمر مشكل يرد علمه إلي اللَّه و رسوله, قال رسول اللَّه ص حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى منالمحرمات, و من أخذ الشبهات ارتكب المحرمات و هلك من حيث لا يعلم. قلت فان كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم, قال ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة و خالف العامة فيؤخذ به و يترك ما خالف حكمه حكم الكتاب و السنة و وافق العامة. قلت جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنة و وجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة و الآخر مخالفاً لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟ قال ما خالف العامة ففيه الرشاد. فقلت جعلت فداك فإن و افقهما الخبران جميعا قال ينظر إلي ما هم إليه أميل حكامهم و قضاتهم فيترك و يؤخذ بالآخر. قلت فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال فإذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى إمامك, فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات. و في معنىهذا الحديث أخبار كثيرة. و في احتجاج الطبرسي بعد نقل هذا الحديث قال: جاء هذا الخبر على سبيل التقدير لأنه قلما يتفق في الأثر أن يرد خبران مختلفان في حكم من الأحكام موافقين للكتاب و السنة و ذلك مثل غسل الوجه و اليدين في الوضوء لأن الأخبار جاءت بغسلهما مرة مرة و غسلهما مرتين مرتين فظاهر القرآن لا يقتضي خلاف ذلك بل يحتمل كلتا الروايتين و مثل ذلك يؤخذ في أحكام الشرع. و أما قوله ع للسائل أرجه و قف عنده حتى تلقى إمامك أمره بذلك عند تمكنه من الوصول إلى الإمام فأما إذا كان غائبا و لا يتمكن من الوصول إليه و الأصحاب كلهم مجمعون على الخبرين و لم يكن هناك رجحان لرواة أحدهما على الآخر بالكثرة و العدالة كان الحكم بهما من باب التخيير. يدل على ما قلنا ما روي عن الحسن بن الجهم عن الرضا ع قال قلت للرضا ع تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة قال ما جاءك عنا فقسه على كتاب الله عز و جل و أحاديثنا فإن كان يشبههما فهو منا و إن لم يشبههما فليس منا قلت يجيئنا الرجلان و كلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيهما الحق فقال إذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت . ما رواه الحرث بن المغيرة عن أبي عبد الله ع قال إذا سمعت من أصحابك الحديث و كلهم ثقة فموسع عليك حتى ترى القائم فترده عليه . و روى سماعة بن مهران قال سألت أبا عبد الله ع قلت يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به و الآخر ينهانا عنه قال لا تعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأله عنه قال قلت لا بد من أن نعمل بأحدهما قال خذ بما فيه خلاف العامة . و في الكافي عنه ع انه سأل عن اختلاف الحديث يرويه من نثق به و منهم من لا نثق, قال إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب اللَّه أو من قول رسول اللَّه ص و إلاّ فالذي جاءكم أولى به . و فيه عنه ع : " كل شيء مردود إلي الكتاب و السنة و كل حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو زخرف. و في عيون الأخبار عن الرضا ع في حديث له طويل قال في أخره بعد ذكر العرض علي الكتاب ثم السنة ثم التخبير و الرد إلي رسول اللَّه ص " و ما لم تجدوه في شيىء من هذه الوجوه فردوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك و لا تقولوا فيه بآرائكم و عليكم بالكف و التثبت والوقوف و أنتم طالبون باحثون حتى يأتيكم البيان من عندنا. و قال ثقة الإسلام أبو جعفر محمد بن يعقوب الكلينى رحمه اللَّه في أوائل الكافي ( يا أخي أرشدك اللَّه إنه لا يسع أحداً تمييز شيىء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلا علي ما أطلقه العالم ع بقوله اعرضوهما علي كتاب اللَّه عزوجل فما وافق كتاب اللَّه فخذوه و ما خالف كتاب اللَّه فردوه, و قوله ع دعوا ما وافق القوم فان الرشد في خلافهم, وقوله ع خذوا بالمجمع عليه فان المجمع عليه لا ريب فيه, و نحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله و لا نجد شيئاً أحوط و لا أوسع من رد علم ذلك كله إلي العالم ع و قبول ما وسع من الأمر فيه بقوله ع بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم. انتهى كلامه و قوله طاب ثراه نحن لا نعرف من جميع ذلك إلا اقله يعنى به أنَّا لا نعرف من الضوابط الثلاث إلا حكم أقل ما اختلفت فيه الرواية دون الأكثر لان الأكثر لا يعرف من موافقة الكتاب و لا من مخالفة العامة ولا من الإجماع فالأحوط في القول رد علمه إلي العالم أي الإمام ع و إلا وسع في العمل التخيير من باب التسليم دون الهوى, يعنى لا يجوز لنا الإفتاء و الحكم بأحد الطرفين بتّة وإن جاز لنا العمل به من باب التسليم بالإذن عنهم عليهم السلام. قال بعض الفضلاء و إنما لم يذكر الترجيح باعتبار الأفقهية و الأعدلية و باعتبار كثرة العدد لأنه رحمه اللَّه أخذ أحاديث كتابه من الأصول المقطوع بها المجموع عليها انتهى كلامه. و لعلك تقول إن الحكم في كل مسألة واحد في نفي الأمر كما هو مذهب أهل الحق والأحكام الشرعية إنما تراد معرفتها للعمل و حاجة المكلفين إليها جميعاً سواء فما الوجه في إخفاء بعض المسائل و أبهامه؟ فنقول إن الحكمة في أكثر الأمور الشرعية غير معلومة لنا إلا أنه يمكننا أن نشير ههنا إلي ما يكسر سورة استبعادك بان نقول يحتمل أن يكون من الحكم في المتشابه المحتاط فيه أن يتميز المتقى المتدين باحتياط في الدين و عدم رتاعه حول الحمى خوفا من الوقوع فيه, مما لا تقوى له و يجترى في الرتاع حوله و لا يبالي بالوقوع فيه, فيتفاضل بذلك درجات الناس و مراتبهم في الدين, فكما أن تارك الشبهات في الحلال والحرام و كذا فاعلها في المردد بين الفرض و النفل ليس كالهالك من حيث لا يعلم فكذا الهالك من حيث لا يعلم ليس كالهالك من حيث يعلم, فالناس ثلاثة فرق مترتبين و يحتمل أن يكون من الحكم في المتشابه المخبر فيه أن يتوسع التكليف لجمهور الناس بإثبات التخبير في كثير من الأحكام و هذه رحمة من اللَّه عزوجل, و به تختلف مراتب التكليف باختلاف مراتب الناس في العقل و المعرفة, و لعل أمير المؤمنين ع إلي هذا أشار بقوله ولا تكلفوها رحمة من اللَّه لكم فاقبلوها و ما لا نعم من الحكم أكثر مما نعم . ثم نقول و مما يعده أهل الاجتهاد من المتشابهات و يجتهدون في تعيين الحكم فيه الأمر المردد بين الوجوب و الندب أي النهى المردد بين الحرمة و الكراهة, و عند إمعان النظر يظهر أنه لا تشابه فيهما إذا المطلوب فعله أو تركه مما لا يقبل التشكيك في الطلب فيمكن أن يكون مراتب الثواب و العقاب للعباد بقدر مراتب الإرادة و الكراهة من الشارع و تكليف العباد بالأمر و النهى لا يستلزم بيان مراتبهما لهم إذ لا مدخل لعلم المكلف بذلك و إنما الواجب عليه تمييز العبادة من غير العبادة أما العلم بمراتب المأمور بها و النهى عنها و تميز بعضها عن بعض فلا لعدم دليل عليه من عقل و لا نقل و هذا كما أنَّا إذا كلفنا عبدنا بفعل أو ترك فإنه لا يتوقف امتثاله لنا علي علمه بانّا هل نؤاخذه بالمختلفة أم لا فلا وجه لتكلف التعرف و ارتكاب التعسف في أمثال ذلك و الإتيان في تعيينها بدلايل هي أوهن من بيت العنكبوت و كلمات يرجح عليها السكوت و هذا أحد طرقهم في تكثير المسائل من غير ضرورة و إلي اللَّه المفزع. | ||
الموضوع الأصلي: الآيات والأخبار الدالة علي إثبات المتشابه وبيان حكمه
الكاتب: ناصر الموعود
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق