في التنبيه على طريق معرفة العلوم الدينية
... طريق معرفة العلم التحقيقي اللدني تفريغ القلب للتعلم و تصفية الباطن بتخليته من الرذائل و تحليته بالفضائل و متابعة الشرع و ملازمة التقوى كما قال اللَّه تعالى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ و قال إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً.
و قال وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا
و في الحديث النبوي ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه اللَّه في قلب من يريد اللَّه أن يهديه
و فيه من أخلص لله أربعين صباحا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
و فيه من علم و عمل بما علم ورثه اللَّه علم ما لم يعلم.
و مثل ذلك مثل من يمشي بسراج في ظلمة فكلما أضاء له من الطريق قطعة مشى فيها فيصير ذلك المشي سببا لإضاءة قطعة أخرى منه و هكذا فالعلم بمنزلة السراج و العمل بمنزلة المشي
و في الحديث النبوي أيضا ما من عبد إلا و لقلبه عينان و هما غيب يدرك بهما الغيب فإذا أراد اللَّه بعبد خيرا فتح عيني قلبه فيرى ما هو غائب عن بصره.
و في أخبار أهل البيت ع من أمثال هذه الكلمات أكثر من أن تحصى و لا سيما في كلام أمير المؤمنين ص و ...
و هذا العلم يجب أن يكون مكنونا عن كل ذي عمه و جهل مضنونا عمن ليس له بأهل إذ كل أحد لا يفهم كل علم و إلا لفهم كل حائك و حجام ما يفهمه العلماء من دقائق العلوم فكما أنهم لا يفهمون فكذلك علماء الرسوم لا يفهمون أسرار الدين و لا يحتملون و إن كانوا مدققين فيما يعلمون و لهذا أكابر الصحابة رضي اللَّه عنهم يكتم بعضهم علمه عن بعض.
قال أمير المؤمنين و إمام المتقين ع مشيرا إلى صدره المبارك إن هاهنا لعلما جما لو وجدت له حملة
و قال سيد العابدين و زينهم ص لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله و في رواية لكفره
و لقد آخى رسول اللَّه ص بينهما
و قال ع
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
و قد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين و وصي قبله الحسنا
و رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
و لاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
و قال أبو جعفر الباقر ع ما زال العلم مكتوما منذ بعث اللَّه نوحا على نبيا و عليه السلام
و قال أبو عبد اللَّه الصادق ع خالطوا الناس بما يعرفون و دعوهم مما ينكرون و لا تحتملوا على أنفسكم و علينا إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن اللَّه قلبه للإيمان.
و ذلك لأن أسرار العلوم على ما هي عليه لا تطابق ما يفهمه الجمهور من ظواهر الشرع و طريق معرفة العلم التقليدي بنوعيه أعني الاعتقادي و العملي ليس إلا تعرف آثار أهل البيت ع و تعلم أحاديثهم من الأصول المنقولة عنهم لأنهم هم خلفاء النبي ص و مهابط الوحي و خزنة العلم و الراسخون فيه و أهل الذكر الذين أمرنا بمسألتهم و أولوا الأمر الذين أمرنا بطاعتهم.
و قد صعدوا ذرى الحقائق بإقدام النبوة و الولاية و نوروا طبقات أعلام الفتوى بالهداية و سائر العلماء و الحكماء إنما استضاءوا بأنوارهم بل الأنبياء و الأوصياء إنما اقتدوا في عالم الأرواح بآثارهم.
فالكليم ألبس حلة الاصطفاء لما شاهدوا منه الوفاء و روح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقهم الباكورة فهم منار الهدى و العروة الوثقى و الحجة على أهل الدنيا خزائن أسرار الوحي و التنزيل و معادن جواهر العلم و التأويل الأمناء على الحقائق و الخلفاء على الخلائق مفاتيح الكرم و مصابيح الأمم طهرهم اللَّه من الرجس تطهيرا و صلى اللَّه عليهم و سلم تسليما كثيرا.
...
و أما طريقة المتكلمين و أهل الجدل و الاجتهاد فحاشا أن تكون مصححة للاعتقاد أو أساسا لعبادة العباد بل هي مما يقسي القلب و يبعد عن اللَّه سبحانه غاية الأبعاد و تربو به الشبه و الشكوك و تزداد.
فالإنسان لا بد أن يكون أحد رجلين إما محققا صاحب كشف و يقين أو مقلدا صاحب تصديق و تسليم و أما الثالث فهالك و إلى الضلال سالك و هو الذي يمزج الحق بالباطل و يحمل الكتاب و السنة على رأيه و يتصرف فيهما بعقله كما ورد في وصفه و ذمة الأخبار عن الأئمة الأطهار و ستقف على بعضها.
و قد قالوا ع كن عالما أو متعلما و لا تكن الثالث فتهلك
و قالوا أيضا نحن العلماء و شيعتنا المتعلمون و سائر الناس غثاء
و إنما رخص في التكلم لدفع شبه المعاندين و رد الجاحدين
و قد ورد أن إثمه أكبر من نفعه و أول من أحدث الجدال في الدين و استنباط الأحكام بالرأي و التخمين في هذه الأمة أئمة الضلال خذلهم اللَّه ثم تبعهم في ذلك علماء العامة ثم جرى على منوالهم فريق من متأخري الفرقة الناجية بخطأ و جهالة و نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ.
تنبيه إنه لما افتتن الناس بعد وفاة رسول اللَّه ص فغرقوا في لجج الفتن و هلكوا في طوفان المحن إلا شرذمة ممن عصمه اللَّه و بسفينة أهل البيت ع نجاة و بالتمسك بالثقلين أبقاه استكتم الناجون دينهم و صانوا وتينهم فاستبقى اللَّه عز و جل بهم رمق الشريعة في هذه الأمة و أبقى بإبقاء نوعهم سنة خاتم النبيين إلى يوم القيامة.
فبعث إمام هدى بعد إمام و أقام خلف شيعة لهم بعد سلف فكان لا تزال طائفة من الشيعة رضي اللَّه عنهم يحملون الأحاديث في الفروع و الأصول عن أئمتهم ع بأمرهم و ترغيبهم و يروونها لآخرين و يروي الآخرون لآخرين و هكذا إلى أن وصلت إلينا و الحمد لله رب العالمين.
و كانوا يثبتونها في الصدور و يسطرونها في الدفاتر و يعونها كما يسمعونها و يحفظونها كما يتحملونها و يبالغون في نقدها و تصحيحها و رد زيفها و قبول صحيحها و تخريج صوابها و سليمها من خطئها و سقيمها حتى يرى أحدهم لا يستحل نقل ما لا وثوق به و لا إثبات ذلك في كتبه إلا مقرونا بالتضعيف و مشفوعا بالتزييف طاعنا في من يروي كل ما يروى و يسطر كل ما يحكى كما هو غير خاف على من تتبع كتب الرجال و تعرف منها الأحوال.
و كانوا لا يعتمدون على الخبر الذي كان ناقله منحصرا في مطعون أو مجهول و ما لا قرينة معه تدل على صحة المدلول و يسمونه الخبر الواحد الذي لا يوجب علما و لا عملا و كانوا لا يعتقدون في شيء من تفاصيل الأصول الدينية و لا يعملون في شيء من الأحكام الشرعية إلا بالنصوص المسموعة عن أئمتهم ع و لو بواسطة ثقة أو وسائط ثقات و كانوا مأمورين بذلك من قبل أولئك السادات و لا يستندون في شيء منها إلى تخريج الرأي بتأويل المتشابهات و تحصيل الظن باستعانة الأصول المخترعات الذي يسمى بالاجتهاد و لا إلى اتفاق آراء الناس الذي يسمى بالإجماع كما يفعل ذلك كله الجمهور من العامة و كانوا ممنوعين عن ذلك كله من جهتهم ع و من جهة صاحب الشرع بالآيات الصريحة و الأخبار الصحيحة و كان المنع من ذلك كله معروفا من مذهبهم مشهورا منهم حتى بين مخالفيهم كما صرح به طائفة من الفريقين.
ثم لما انقضت مدة ظهور الأئمة المعصومين صلوات اللَّه عليهم أجمعين و انقطعت السفراء بينهم و بين شيعتهم و طالت الغيبة و اشتدت الفرقة و امتدت دولة الباطل و خالطت الشيعة بمخالفيهم و ألفت في صغر سنهم بكتبهم إذ كانت هي المتعارف تعليمها في المدارس و المساجد و غيرها لأن الملوك و أرباب الدول كانوا منهم و الناس إنما يكونون مع الملوك و أرباب الدول فعاشرت معهم في مدارسة العلوم الدينية طالعوا كتبهم التي صنفوها في أصول الفقه التي دونوها لتسهيل اجتهاداتهم التي عليها مدار أحكامهم فاستحسنوا بعضا و استهجنوا بعضا أداهم ذلك إلى أن صنفوا في ذلك العلم كتبا إبراما و نقضا و تكلموا فيها تكلم العامة فيه من الأشياء التي لم يأت بها الرسول ص و لا الأئمة المعصومون ص و كثروا بها المسائل و لبسوا على الناس طرق الدلائل.
و كانت العامة قد أحدثوا في القضايا و الأحكام أشياء كثيرة بآرائهم و عقولهم في جنب اللَّه و اشتبهت أحكامهم بأحكام اللَّه و لم يقنعوا بإبهام ما أبهم اللَّه و السكوت عما سكت اللَّه بل جعلوا لله شركاء حكموا كحكمه فتشابه الحكم عليهم بل لله الحكم جميعا و إليه ترجعون و سيجزيهم اللَّه بما كانوا يعملون. ثم لما كثرت تصانيف أصحابنا في ذلك و تكلموا في أصول الفقه و فروعه باصطلاحات العامة اشتبهت أصول الطائفتين و اصطلاحاتهم بعضها ببعض و انجر ذلك إلى أن التبس الأمر على طائفة منهم حتى زعموا جواز الاجتهاد و الحكم بالرأي و وضع القواعد و الضوابط لذلك و تأويل المتشابهات بالتظني و الترئي و الأخذ باتفاق الآراء و تأيد ذلك عندهم بأمور أحدها ما رأوه من الاختلاف في ظواهر الآيات و الأخبار التي لا تتطابق إلا بتأويل بعضها بما يرجع إلى بعض و ذلك نوع من الاجتهاد المحتاج فيه إلى وضع الأصول و الضوابط. و الثاني ما رأوه من كثرة الوقائع التي لا نص فيها على الخصوص مع مسيس الحاجة إلى معرفة أحكامها. و الثالث ما رأوه من اشتباه بعض الأحكام و ما فيه من الإبهام الذي لا ينكشف و لا يتعين إلا بتحصيل الظن فيه بالترجيح و هو عين الاجتهاد. فأولوا الآيات و الأخبار الواردة في المنع من الاجتهاد و العمل بالرأي بتخصيصها بالقياس و الاستحسان و نحوهما من الأصول التي تختص بها العامة و الواردة في النهي عن تأويل المتشابهات و متابعة الظن بتخصيصها بأصول الدين و الواردة في ذم الأخذ باتفاق الآراء بتخصيصها بالآراء الخالية من قول المعصوم لما ثبت عندهم أن الزمان لا يخلو من إمام معصوم. فصار ذلك كله سببا لكثرة الاختلاف بينهم في المسائل و تزايده ليلا و نهارا و توسع دائرته مددا و أعصارا حتى انتهى إلى أن تراهم يختلفون في المسألة الواحدة على عشرين قولا أو ثلاثين أو أزيد بل لو شئت أقول لم تبق مسألة فرعية لم يختلفوا فيها أو في بعض متعلقاتها. و ذلك لأن الآراء لا تكاد تتوافق و الظنون قلما تتطابق و الأفهام تتشاكس و وجوه الاجتهاد تتعاكس و الاجتهاد يقبل التشكيك و يتطرق إليه الركيك فيتشبه بالقوم من ليس منهم و يدخل نفسه في جملتهم من هو بمعزل عنهم فظلت المقلدة في غمار آرائهم يعمهون و أصبحوا في لجج أقاويلهم يغرقون. تنبيه ليت شعري كيف ذهب عنهم ما ينحل به عقد هذه المشكلات عن ضمائرهم أم كيف خفي عنهم ما ينقلع به أصول هذه الشبهات من سرائرهم ألم يسمعوا حديث التثليث المشهور المستفيض المتفق عليه بين العامة و الخاصة المتضمن لإثبات الإبهام في بعض الأحكام. و أن الأمور ثلاثة بين رشده و بين غيه و أمر مشكل يرد حكمه إلى اللَّه و رسوله. و هلا سوغوا أن في إبهام بعض الأحكام حكما و مصالح مع أن من تلك الحكم ما يمكن أن يتعرف و لعل ما لا يعرف منها يكون أكثر على أن الاجتهاد لا يغني من ذلك لبقاء الشبهات بعده إن لم تزد به كلا بل زادت و زادت أ حسبوا أنهم خلصوا منها باجتهادهم كلا بل أمعنوا فيها بازديادهم أ زعموا أنهم هدوا بالتظني إلى التثني كلا بل التثلث باق و ما لهم منه من واق. أولم يدبروا قول اللَّه عز و جل فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. أما طن آذانهم أن المراد بالراسخين في العلم الأئمة ع لا هم أغفلوا عن الأحاديث المعصومية المتضمنة لكيفية الترجيح بين الروايات عند تعارضها و إثبات التخيير في العمل عند عدم جريانه و أنه يؤخذ بخبر الأوثق و ما للقرآن أوفق أو عن آراء المخالفين أبعد و أسحق ثم التخيير على وجه التسليم المطلق. أو ما بلغهم و بلغك بأيها أخذت من باب التسليم وسعك. أو خفي عليهم أن قول المعصوم ع إنما يعرف بالحديث المسموع عنه عند حضوره و المحفوظ في صدور الثقات أو المثبت في دفاترهم عند غيبته و لا مدخل لضم الآراء معه اتفقوا أو اختلفوا. نعم قد يكون الحديث مما اتفقت الطائفة المحقة على نقله أو العمل بمضمونه بحيث اشتهر عنهم و فيما بينهم و يسمى ذلك الحديث بالمجمع عليه كما ورد في كلام أبي عبد اللَّه ع في حديث الترجيح بين الروايات المتعارضة خذ بالمجمع عليه بين أصحابك فإن المجمع عليه لا ريب فيه. و هذا معنى الإجماع الصحيح المشتمل على قول المعصوم عند قدماء الشيعة لا غير. فلو أنهم تركوا المتشابه على حاله من غير تصرف فيه و سكتوا عما سكت اللَّه عنه و أبهموا ما أبهم اللَّه و جعلوا الأحكام ثلاثة و احتاطوا في المتشابه و ردوا علمه إلى اللَّه و رسوله و خيروا في المتعارض و وسعوا في المتناقض كما ورد بذلك كله النصوص عن أهل الخصوص لاجتمعت أقوالهم و اتفقت كلمتهم و مقالهم و كانوا فقهاء متوافقين و لأحاديث أئمتهم ناقلين لا خصماء متشاكسين و عن النصوص ناكلين. و لكان كلما جاء منهم خلف دعوا لسلفهم لا كلما دخلت منهم أمة طعنت في أختها بصلفهم و لكان كل امرئ منهم بالقرآن و الحديث منطيقا و عن الآراء سكيتا وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً. و ليت شعري ما حملهم على أن تركوا السبيل الذي هداهم إليه أئمة الهدى و أخذوا سبلا شتى و اتبعوا الآراء و الأهواء كل يدعو إلى طريقة و يذود عن الأخرى. ثم ما الذي حمل مقلدتهم على تقليدهم في الآراء دون تقليد الأئمة ع على الطريقة المثلي إن هي إلا سنة ضيزى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. و قد أشبعنا الكلام في تحقيق هذه الكلمات و تشييدها بالآيات و الروايات في كتابنا الموسوم بسفينة النجاة و في الأصول الأصيلة و غيرهما من المصنفات و الحمد لله وحده .
0 التعليقات:
إرسال تعليق