فتنة الشلمغاني
شهدت فترة نيابة السفير الثالث الحسين بن روح النوبختي أزمة عقائدية حقيقيةتصدى لها وبكل لياقة، فكان جديراً في احتواء الأزمات التي كادت تعصفبالشيعة التي عاشت تحت ضغوطٍ عقائدية فضلاً عن كونها سياسية،فالصراع العباسي _العباسي يأخذ بالدولة إلى مسارات غير حميدة, والتنافساتالسياسية على أشدها بين القوى العباسية لتخلّف ضعفاً بان على أكثر مراكزالدولة آنذاك، وقد خلّف صراعاً عقائدياً غير محمود على مفاصل المجتمعالإسلامي، فكانت فتنة العامة التي تحدثت عنها المصادر التأريخية أبّان عهدالراضي العباسي وما بعده. ولا يهمنا هنا المجريات التأريخية بقدر ما يهمنا دور القواعد الشيعية التيتعرضت إلى هزاتٍ فكرية أطاحت ببعض الوجودات الشيعية، وكان أبرزها محنة أسرةبني بسطام. كانت هذه الأسرة عريقة في ولائها لأهل البيت عليهم السلام،معروفة بقربها لأحداث وقائع الغيبة الصغرى، بل شكّلت محوراً مهماً فيعلاقتها بالسفير الثالث (الحسين بن روح)، وكانت عقائدها سليمة، ملتزمةبطاعة السفير الثالث وقتذاك، إلا أنها كانت على علاقة بالشلمغاني محمد بنعلي المعروف بابن أبي العزاقر، وكان هذا الرجل معروفاً بعلاقته مع الحسينبن روح وشهرته بين الأوساط الشيعية بعلمه وتديّنه، قال صاحب كتاب (منتهىالمقال) في معرض حديثه عن الشلمغاني كان (( مقدماً في أصحابنا ولكن تغيرتحاله )) . لم ينتفع الشلمغاني من علمه بل رضخ تحت مؤثرات رغبته في حب الدنيا، وكانعلمه داعياً في غروره وتكبره حيث لم يجد مجالاً للورع ومانعاً عن ارتكابالدجل والإتيان بالكذب من أجل الشهرة والتصدي، وبدلاً من أن يكون علمهمقرّباً لله تعالى فقد كان مطيته للوصول إلى رغباته في التقرب إلى بنيبسطام أولئك الطيبين البسطاء الذين اطمأنوا إلى الشلمغاني وكونه عالماً إلاأنهم لم يحكّموا عقولهم ولم يتورعوا في دعاوى الشلمغاني، بل أخذوا أقوالههكذا حجة لا يمكن مناقشتها فسلّموا له وأيقنوا بكل ما يقوله على أنه رجلٌبلغ من العلم إلى الحد الذي لا تناقش أقواله، ولا تعارض آراؤه، حتىاستغفلهم فأوبق في عقولهم ما لا ينبغي لمثلهم أن يصدّقوه لتحريهم مواطنالطاعة وبلوغهم مراتب القرب للسفير. فقد روى الشيخ الطوسي عن أم كلثوم بنت السفير الثاني قال: كان أبوجعفر بن أبي العزاقر وجيهاً عند بني بسطام، وذلك أن الشيخ الحسين بن روح(السفير الثالث) كان قد جعل له (أي لابن أبي العزاقر) عند الناس منزلةًوجاهاً، فكان عند ارتداده يحكي كل كذب وبلاء وكفر لبني بسطام، ويسنده عنالحسين بن روح القاسم، فيقبلونه منه حتى انكشف ذلك للسفير الثالث، فأنكرهوأعظمه، ونهى بني بسطام عن كلامه وأمرهم بلعنه والبراءة منه فلم ينتهوا،وأقاموا على توليه وذاك أنه كان يقول لهم: (( انني أدعيت السر، وقد أخذ عليّ الكتمان بالإبعاد بعد الاختصاص، لأن الأمرعظيم لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن ممتحن)) . فيؤكد في نفوسهمعظم الأمر وجلالته، فبلغ ذلك السفير الثالث (قده) فكتب إلى بني بسطام بلعنهوالبراءة منه وممن تابعه على قوله وأقام على توليه، فلما وصل إليهم أظهروهعليه، فبكى بكاءً عظيماً ثم قال: (( إن لهذا القول باطناً عظيماً وهو: أناللعنة (الإبعاد) فمعنى قوله (لعنه الله) أي: باعده الله عن العذاب والنار،والآن قد عرفت منزلتي)) . ومرّغ خديه على التراب وقال: (( عليكم بالكتمان لهذاالأمر)) ، قالت السيدة بنت السفير الثاني المعروفة بأم كلثوم: (( وقد كنت أخبرت(الحسين بن روح) _أن امرأةً منهم_ قالت لي يوماً وقد دخلنا إليهافاستقبلتني وأعظمتني وزادت في إعظامي حتى انكبت على رجلي تقبلها، فأنكرتذلك وقلت لها: مهلاً. فقالت لي: إن الشلمغاني قد كشف لنا السر، فقلت لها: وما السر ؟ قالت : قد أخذ علينا كتمانه، وأفزع إن أنا أذعته عوقبت، ثم قالت: إن الشلمغاني قال لنا: إن روح رسول الله صلى الله عليه وآله انتقلت إلىمحمد بن عثمان (قده) (السفير الثاني) وروح أمير المؤمنين علي عليه السلامانتقلت إلى بدن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (السفير الثالث)، وروحمولاتنا فاطمة عليها السلام انتقلت إليك (يعني بنت السفير الثاني أم كلثوم)فكيف لا أعظمك فقلت لها : مهلاً، لا تفعلي فإنّ هذا كذب، فقالت لي : سر عظيموقد أخذ علينا اننا لا نكشف هذا لأحد، فالله الله فيَّ لا يحلّ بي العذاب. قالت أم كلثوم: فلما انصرفت من عندها دخلت على الشيخ أبي القاسم الحسين بنروحj فأخبرته بالقصة وكان يثق بي ويركن إلى قولي. فقال لي : يا بنية إياكِأن تمضي إلى هذه المرأة بعد ما جرى منها ولا تقبلي لها رقعة إن كاتبتك، ولارسولاً إن أنفذته إليكِ، ولا تلقيها بعد قولها، فهذا كفر بالله تعالىوإلحاد قد أحكمه هذا الرجل الملعون في قلوب هؤلاء القوم ليجعله طريقاً إلىأن يقول لهم: بأن الله تعالى اتحد به وحلّ فيه، كما يقول النصارى في المسيحعليه السلام ويعدو إلى قول الحلاج لعنه الله(( . وقد خرج التوقيع من الإمام صاحب الزمان¨ يخاطب به الحسين بن روح (السفيرالثاني) وهذا نصه: (( عرِّف _أطال الله بقاك! وعرَّفك الله الخير كله وختم بهعملك_ من تثق بدينه وتسكن إلى نيته من إخواننا أدام الله سعادتهم، بأنمحمد بن علي المعروف بالشلمغاني عجل الله له النقمة ولا أمهله، قد ارتد عنالإسلام وفارقه، وألحد في دين الله وادعى ما كفر معه بالخالق جل وتعالى،وافترى كذباً وزوراً، وقال بهتاناً وإثماً عظيماً، كذب العادلون باللهوضلوا ضلالاً بعيداً، وخسروا خسراناً مبيناً. وإنا برئنا إلى الله تعالىوإلى رسوله صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته منه، ولعناه، عليه لعاينالله تترى، في الظاهر منا والباطن، والسر والجهر، وفي كل وقت، وعلى كلحال، وعلى كل من شايعه وبلغه هذا القول منا فأقام عليه. أعلمهم _تولاك الله_ : إننا في التوقي والمحاذرة منه على مثل ما كنا عليهممن تقدمه من نظرائه من: السريعي، والنميري، والهلالي، والبلالي وغيرهم،وعادة الله جل ثناؤه مع ذلك قبله وبعده عندنا جميلة، وبه نثق وإياه نستعينوهو حسبنا في كل أمورنا ونعم الوكيل)) . وبعد هذا كله ما الذي نتوخاه من ذكر هذه الواقعة؟ وما الذي نستفيده منتأريخ هذا المقطع المهم من تأريخ الغيبة الصغرى، وهل كانت دعوى الشلمغانيواتباع بني بسطام له مجرد حادثة عابرة أم انها تحمل المعاني الجسام فيمطاويها؟ وبالتحليل لهذه الحادثة نجد ما يلي: أولاً: إن المحنة التي مرّ بها بنو بسطام هي محنة عقائدية ناتجة عن تعلقهموحبهم وشغفهم للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف إلا أنها تعاني _أيظاهرة الحب_ من الجهل وعدم الوعي وعدم معرفتهم لأمور الإمامة وأصولالاعتقادات وعدم التثقيف على قضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجهالشريف بل عدم الورع كذلك، إذ بإمكان هؤلاء حينما وقفوا على نواياالشلمغاني وآرائه الغريبة أن يرفعوا الأمر إلى الحسين بن روح سفير الإمامعجل الله تعالى فرجه الشريف ومعتمده وأن يتحققوا من صحة هذه المدعيات ومدىصلاحيتها وأن لا يعتقدوا أمراً لم يكن سفير الإمام قد اطلع عليه وعرفهليمضيه بعد ذلك ويؤيده. ثانياً: إن بني بسطام وثقوا من الشلمغاني واعتقدوا صحة عقيدته حتى أناعتقادهم به أعماهم وأصمّهم من نصيحة الحسين بن روح بعدم الإصغاء لهوالاستماع إليه، ولما أظهروا له البراءة منه خدعهم واحتال في استمالةقلوبهم وكذب عليهم وجعل اللعن فضيلة ومنزلة فصدقوه وتركوا نصيحة الحسين بنروح، وبذلك لاصرارهم وإقامتهم على ما هم عليه من الاعتقاد بالشلمغاني فحبطتأعمالهم ونالتهم لعنة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف بقوله في التوقيعالصادر عنه: وعلى كل من شايعه، فكان بنو بسطام ممن شايعه واعتقد به دون أنيصغوا إلى نهيٍ أو نصيحة. ثالثاً: كان بنو بسطام قد أخذتهم العزة بالإثم وظنوا أن الحسين بن روححينما نهاهم عن التصديق بدعاوى الشلمغاني ظنوا أن ذلك حسداً من الحسين بنروح للشلمغاني ومنافسةً له، فاستكبروا وأصروا على الإقامة على عقيدتهموالتزامهم لدعاوى هذا الدجال. هذه خلاصة أسباب تورط بني بسطام بدعاوى الشلمغاني واعتقادهم به وإقامتهم على دجله وكذبه. أما محنة الشلمغاني ووقوعه في مشكلة الادعاءات الباطلة فنلخصها بما يلي: أولاً: إن الشلمغاني اعتقد أن ما يملكه من العلم سينزهه عن كل خطأ واعتدادهبنفسه واعتقاده بأنه الأحق بأمر السفارة جرّه إلى هذا التفكير المنحرف. ثانياً: حسد الشلمغاني للحسين بن روح على ما آتاه الله من هذه المنزلةوالمقام الرفيع دعا الشلمغاني أن يفكر أن السفارة تُنال على أساس الحساباتالمادية التي اعتقدها الشلمغاني وكانت هذه الحسابات الخاطئة قد صوّرت لهأهليته لمنصب السفارة وعدم استحقاق الحسين بن روح لهذا المقام، وكأن القضيةهي أذواق ومشتهيات خاضعة لحساباتٍ شخصية، وقد غفل أن أمر السفارة قضيةإلهية باختيار الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف ضمن شروطٍ ومواصفات خاصةلا يعلمها إلا الله والإمام المؤتمن على هذا الأمر. ثالثاً: ان حب الدنيا هي أهم مشاكل الشلمغاني، فالتصدي وحب المنصب واجتماعالأتباع دعا الشلمغاني أن يستغل تعاطف بني بسطام، فسخر هذا الإيمان الساذجلهؤلاء لصالح مآربه الخاصة. وبهذا فلا يمكن أن نقرأ هذه الحادثة كمقطع تأريخي مجرّد مالم نطبقه علىواقعنا المعاشي، فبنو بسطام يشكّلون أولئك الذين يتمسكون بالإمام المهديعجل الله تعالى فرجه الشريف دون وعيٍ وعلمٍ في عصرنا الحاضر، بل أن جهلهمبالقضية المهدوية أوقعهم في هذا الإشكال، لذا فلا يمكن أن نسمح لأنفسنابتصديق كل من يدعي المهدوية دون الرجوع إلى الثقلين ( الكتاب وروايات العترة الطاهرة ) والسؤال عنحال أولئك المدعين، فلا يكفي أن يدعي أحد أنه صاحب علاقة بالإمام عجل اللهتعالى فرجه الشريف مالم نطلب منه الدليل على ذلك في هذاالشأن, فقبول الدعوى والتصديق المجرد يوقعنا في سخط الإمام عجل الله تعالىفرجه الشريف وغضبه وتشملنا لعنة الإمام كما شملت بني بسطام الذين ابتعدواعن نصيحة الحسين بن روح وظنوا بجهلهم أن الحسين بن روح لا يرضى بدعاوىالشلمغاني حسداً منه ومنافسةً، فابعاد هذه الوساوس والأفكار من أذهانناوتمتين الصلة بالثقلين فإن ذلك وظيفة الجميع في عصر الغيبة الكبرى لننال رضا الإمام عجلالله تعالى فرجه الشريف ورعايته، ماذا لو واجهنا الإمام المهدي عجل اللهتعالى فرجه الشريف بدعاوى ليس فيها حجة؟ ما الذي سنعتذره من الإمام عجلالله تعالى فرجه الشريف وما الذي سنقوله بعد ذلك؟ اذن فلابد من التروي فيأي دعوى مهدوية وأن لا نسخط الإمام بالإنجرار وراء الأباطيل كما أسخطبنو بسطام الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف فدعا عليهم ولعنهموتبرأ من عملهم الشنيع. هذه خلاصة محنة الشلمغاني، وبذلك فإن محنتي الشلمغاني وبني بسطام تشكلانبادرةً خطيرة في الاعتقادات المنحرفة غير الصحيحة التي بُليت بها قضيةالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف. نسأل الله تعالى أن يعصمنا من هاتين المحنتين وأمثالهما بالتمسك بالحق والصراط المستقيم منقول للفائدة | ||
الموضوع الأصلي: فتنة الشلمغاني
الكاتب: عباس العلوي
المصدر: منتديات كهف المستضعفين
0 التعليقات:
إرسال تعليق